تقارير
مساعي السلام في اليمن.. من يملك مفاتيح الحل؟
بفعل الإدارة العبثية للأزمة اليمنية من قبل التحالف السعودي الإماراتي، أصبحت مساعي السلام في اليمن تثير المخاوف أكثر من الحرب ذاتها، فالحرب قد تكون نتائجها محسومة وواضحة في حال وصلت إلى نهايتها بانتصار طرف واستسلام أو هزيمة طرف آخر، لكن مساعي السلام ووقف الحرب، خصوصا ما يتعلق بمفاوضات السعودية السرية أو المباشرة مع الحوثيين بمعزل عن الحكومة اليمنية الشرعية، وزيارة سفير السعودية لدى اليمن إلى صنعاء ولقائه بزعيم المليشيا الحوثية، وفق مصادر إعلامية عدة، فإن ذلك يثير مخاوف معظم فئات الشعب اليمني مما يدار من مؤامرات ضد البلاد، لا سيما أن الحكومة اليمنية الشرعية لم تحرك ساكنا باعتبارها الطرف الوحيد المعني بإدارة ملف الحرب والسلام.
واللافت أنه كلما عاودت الأمم المتحدة وغيرها استئناف مساعي السلام في اليمن، تسارع السعودية إلى إجراء مشاورات سرية أو مباشرة مع مليشيا الحوثيين، وهو تصرف يُفهم منه أن السعودية لا تريد سلاما إلا وفق رغبتها، أو أنها تخشى تحقيق السلام في ظل وضع معقد لا يضمن المكاسب التي تريد حصادها من وراء استمرار الحرب، ولذا فهي تخشى أن يحقق أي وسيط دولي انفراجة في الأزمة تتوافق عليها مختلف الأطراف اليمنية، مع أن الواقع الميداني الحالي ومكاسب مختلف الأطراف والمكونات تعيق أي تقارب يفضي إلى انفراجة في الأزمة تفضي إلى حل سياسي، وبناء على ذلك، فهل السعودية ترغب فعلا في إجراء تسوية سياسية تبدأ بترويض الحوثيين أو مراضاتهم؟ أم أن هدفها فقط تأمين أراضيها وإفساد جهود السلام الأخرى وأيضا إفساد مسار الحرب حتى لا تفضي إلى نتائج لا ترغب بها؟
- كيف أفسدت السعودية الحرب والسلام؟
لم تتوقف جهود الحل السياسي في اليمن منذ أكثر من عشر سنوات، أي منذ مجيء جمال بن عمر كمبعوث للأمم المتحدة إلى اليمن بعد اندلاع ثورة 11 فبراير 2011 وقبل انقلاب مليشيا الحوثيين على السلطة الشرعية في 21 سبتمبر 2014، ثم اندلاع عملية "عاصفة الحزم" في 26 مارس 2015. وخلال السنوات العشر الماضية، قْدمت عدد من المبادرات والمقترحات من قبل أطراف عدة، وعينت بعض الحكومات مبعوثين لها إلى اليمن، فضلا عن توالي عدد من المبعوثين الأمميين، إلى جانب مبادرات وجهود لحل الأزمة سياسيا تقدمت بها أطراف رئيسية في الصراع، مثل السعودية، وكان الفشل هو مصير جميع تلك الجهود.
وبعد كل تلك السنوات من فشل جهود الحل السياسي، بدأت السعودية تسلك مقاربات مختلفة لوقف إطلاق النار من خلال إجراء حوارات سرية ومباشرة مع مليشيا الحوثيين دون أي تمثيل أو حضور للحكومة اليمنية الشرعية. وتتحدث تسريبات إعلامية عن تنازلات ومكاسب كبيرة تمنحها السعودية للحوثيين من شأنها فتح شهيتهم لمواصلة التمرد والتصعيد أملا في الحصول على سلسلة غير متناهية من المكاسب التي من الصعب الحصول عليها بواسطة العمل العسكري، وهي بذلك -أي السعودية- تفسد عملية السلام بعد أن أفسدت العمل العسكري ضد الانقلاب الحوثي.
من حقائق الوضع الراهن في اليمن أن السلام أو تنفيذ هدنة طويلة الأمد لا يمكن أن يفضيان إلى حلول دائمة، كما أن تجربة اليمنيين المريرة مع التدخل السعودي في البلاد تجعل من دور المملكة الحالي محبطا للآمال، سواء كانت السعودية هي من تقود الحرب وتحدد مسارها أو هي من ترسم السلام والتسوية السياسية إذا افترضنا أن جميع الأطراف ستقبل بالإملاءات السعودية أو ضمان توزيع المكاسب بين الجميع. ويبدو أن السعودية تائهة حاليا، ولعلها بصدد اختبار مختلف الأطراف وجس نبضها من خلال خيارات عدة وقراءة ردود الأفعال واستهلاك الوقت حتى تتبلور صيغة نهائية للوضع ويقبل بها الجميع مع ضمان تحقيق مكاسب السعودية وحليفتها الإمارات من الحرب.
وثمة أسباب عدة تشجع السعودية على المضي في هذا المسار العبثي، فالسلطة الشرعية بشكلها الأخير (مجلس القيادة الرئاسي) ضعيفة وممزقة وغير قادرة على الاعتراض على أي تصرف سعودي ضد رغبة اليمنيين، وكذلك فإن مليشيا الحوثيين غير قادرة على تحقيق مكاسب جديدة بواسطة الحرب بعد فشل معركتها في مأرب، بل فهي غير قادرة على حماية سلطتها الانقلابية غير المعترف بها إذا اتحدت مختلف المكونات اليمنية وبدأت بالتقدم نحو العاصمة صنعاء من مختلف الجبهات. وبما أن السعودية أصبحت تداري المليشيا الحوثية بشكل مذل، فلا شك أن المليشيا سترفع من سقف اشتراطاتها، سواء للقبول بتجديد الهدنة أو عدم شن هجمات على الأراضي السعودية أو غير ذلك من المطالب التي تأملها السعودية من الحوثيين.
واللافت أنه في جميع جهود ومساعي السلام منذ بداية الحرب، لم يقدم الوسطاء مقاربات جديدة أو مقترحات تؤسس لحل شامل ومستدام، فكل ما يُطرح لوقف الحرب يقتصر على التخفيف من المعاناة الإنسانية والوقف الشامل لإطلاق النار، وكأن مسألة استعادة الدولة والنظام السياسي للبلاد والسيادة وغير ذلك ليست أشياء بذات أهمية، أو كأن الحرب مجرد أعراض لخلاف سياسي غير جوهري، وهذا يجعل من جهود السلام مجرد مضيعة للوقت، أو كأن هناك "نقطة حرجة" لا يريد أحد الاقتراب منها لحساسيتها، مثل تحقيق التحول الديمقراطي كمطلب شعبي واسع، وتسليم سلاح المليشيات والتشكيلات غير النظامية للدولة، وخروج القوات الأجنبية من البلاد، وهذه هي المسائل الحاسمة في نجاح أي تسوية سياسية، وما عدا ذلك فمساعي السلام مجرد أوهام.
- فشل المساعي الأممية والدولية
خلال الأيام القليلة الماضية، كثف المبعوثان الأممي والأمريكي إلى اليمن من تحركاتهما في المنطقة للدفع بعملية السلام إلى الأمام، كما أن الرئيس الأمريكي جو بايدن جدد التزام بلاده بالسعي لإنهاء الحرب في اليمن، وتعهد بدعم أمن دولة الإمارات في مواجهة أي تهديدات، وفق بيان صدر عشية الذكرى السنوية الأولى لهجمات الحوثيين على مواقع في العاصمة الإماراتية أبوظبي، يضاف إلى ذلك التحركات العمانية لإنهاء الحرب، حيث زار وفدها العاصمة صنعاء مرتين للقاء قيادات مليشيا الحوثيين، فضلا عن احتضان العاصمة العمانية مسقط لمشاورات سابقة بين السعودية والحوثيين، واستقبالها المبعوثين الأممي والأمريكي إلى اليمن.
بالنسبة للوساطة الأمريكية فهي غير مرحب بها في اليمن لأسباب شتى، في حين تبدو سلطنة عمان كوسيط غير محايد، بينما حوار السعودية مع مليشيا الحوثيين ما زال يتمحور حول الضمانات الأمنية للمملكة ومطالب الحوثيين مقابل ذلك، وليس بقدرة السعودية احتكار تحديد مصير اليمنيين بالاتفاق مع الحوثيين. ولا يختلف الأمر كثيرا مع وساطة الأمم المتحدة التي تحوطها إشكاليات كثيرة، كون المنظمة مجرد أداة بيد الدول الكبرى التي تتخذ منها وسيلة لإضفاء الشرعية الدولية على تدخلها في مناطق النزاعات وأنماط سلوكها المختلفة، وإدارة الصراعات بين دول العالم بما يضمن تحقيق مصالح الدول الكبرى أو يخدم أجندتها، وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية.
ومنذ تأسيسها عام 1945، لم تنجح الأمم المتحدة في حل أي أزمة في العالم، بما في ذلك اليمن، التي تدخلت فيها المنظمة ثلاث مرات: الأولى كانت أثناء الحرب بين الجمهوريين والملكيين بعد ثورة 26 سبتمبر 1962، والثانية كانت خلال حرب صيف 1994، والثالثة بدأت قبل انقلاب مليشيا الحوثيين والرئيس الراحل علي عبد الله صالح على السلطة الشرعية، وما يزال تدخلها مستمرا حتى اليوم رغم كل سنوات الفشل.
- الحل بيد من؟
كان سائدا في أوساط النخبة اليمنية أن حلول أزمات اليمن تأتي من الخارج أو عبر بوابة الرياض، أو أنه لا يمكن إنجاز تسوية سياسية دائمة في اليمن إلا بعد إنجاز تسويات إقليمية، بيد أن الأزمة الراهنة أكدت عدم صحة ذلك الاعتقاد بعد أن تبين أن الخارج لا يأتي بالحلول وإنما يأتي بالأزمات والحروب والمؤامرات وكل أشكال الفوضى والتخريب، ولم يسبق أن نجحت أطراف خارجية في حل أي أزمة في البلاد، سواء كانت الأمم المتحدة أو غيرها.
وكذلك الأمر بالنسبة للتسويات الإقليمية، فهذا في الأساس تعبير فضفاض، وإذا كان يُقصد به أن أي تسوية بين السعودية وإيران سينعكس أثرها على اليمن، فالمعلوم أن أزمة اليمنيين مع الإمامة العنصرية السلالية أقدم من الدولة السعودية وأقدم من إيران الشيعية، كما أن مؤامرات السعودية على اليمن ووحدته ونظامه السياسي بدأت قبل أزمتها مع إيران بعقود.
وبالعودة إلى البيانات الكمية للصراعات في اليمن خلال العقود الأخيرة، نجد أن كل الصراعات يحسمها اليمنيون فيما بينهم بعيدا عن التدخل الخارجي، وأن القبول بأي دور خارجي، سواء في بداية أي صراع أو في لحظة إنهاء أي صراع، فإن ذلك الدور ينطوي على ألغام ومخاطر جمة تفخخ المستقبل أو تعيد الصراع إلى مربع الصفر.
وأحيانا إذا أنجز اليمنيون تسوية تاريخية مهمة أو تحولا نوعيا يضمن استقرار البلد والإقليم، فإن الدور الخارجي يعمل على إفشال ذلك الإنجاز، مثل إعادة تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990، والتي كانت عامل استقرار لليمن والمنطقة، لكن مؤامرات إعادة تقسيم اليمن من قبل بعض الأشقاء أو الجيران بدأت قبل إعادة تحقيق الوحدة اليمنية وما زالت مستمرة إلى يومنا هذا.
وبشأن السؤال الصعب: كيف ستنتهي حرب اليمن في ظل التعقيدات القائمة؟ فمما لا شك فيه أن الوساطات الخارجية قد استنفدت كل ما لديها ولم يعد بإمكانها تقديم المزيد، كما أن أطراف الصراع الحالية، المحلية والأجنبية، غير مستعدة لتحقيق تسوية سياسية شاملة، ولا تريد الحسم العسكري أو أنها غير قادرة عليه.
فالتحالف السعودي الإماراتي لا يريد القضاء على مليشيا الحوثيين وتمكين اليمنيين من استعادة دولتهم، ومجلس القيادة الرئاسي تعيقه انقساماته وتنافر أعضائه عن الحسم العسكري ضد الحوثيين، وبالتالي ستظل تفاعلات الأزمة والحرب مستمرة كما هي عليه حتى تندلع ثورة شعبية ضد مليشيا الحوثيين وغيرها من مشاريع تفتيت البلاد، واستعادة الدولة، والبدء في مرحلة جديدة من تاريخ البلاد، وهذا على الأقل ما يؤكده منطق التاريخ، أي أن الشعوب هي من تحسم مصيرها في نهاية المطاف.