تقارير
نزيف الكوادر التعليمية: اليمن يواجه عجزًا حادًا في المعلمين
مع انطلاق العام الدراسي الجديد في المناطق الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثي، تشهد المدارس الحكومية والخاصة أزمة حادة في نقص الكوادر التعليمية، خصوصًا في المواد الأدبية والإنسانية، ما ينذر بتداعيات خطيرة على مستقبل التعليم في اليمن.
وبحسب التقويم الدراسي المعتمد من وزارة التربية والتعليم بصنعاء، بدأ العام الدراسي في مطلع شهر محرّم، على أن ينتهي مع دخول شهر رمضان، بخلاف التقويم المعتمد في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًا، حيث يبدأ العام الدراسي نهاية سبتمبر.
ومع حلول الأسبوع الثالث من العام الدراسي، تفاقمت الفجوة التعليمية نتيجة عزوف الطلاب عن الالتحاق بكليات التربية، وتقاعد عدد كبير من المعلمين، ونزوح آخرين، أو هجرتهم للعمل في الخارج، بينما توفي بعضهم بسبب الظروف المعيشية القاسية الناتجة عن انقطاع رواتبهم للعام التاسع على التوالي.
- مدارس بلا معلمين
"نعيش ما يمكن وصفه بـ أزمة طباشير"، تقول م. الصبري، مديرة مدرسة خاصة في أمانة العاصمة، مشيرة إلى أنها لم تتمكن منذ أشهر من سد النقص الحاد في الكادر التدريسي، خاصة في مواد اللغة العربية والاجتماعيات، ما دفعها لتغطية العجز من خريجي الثانوية أو تخصصات أخرى، أو معلمين يتناوبون على عدة مدارس، كل مدرسة لها يوم محدد.
وأكدت الصبري، في حديث لقناة بلقيس، أنها تواصلت مع المعهد العالي لإعداد المعلمين دون جدوى، ما اضطرها إلى الاستعانة بخريجات من تخصصات مختلفة لتغطية النقص، موضحة أن "الظروف الاقتصادية وانقطاع الرواتب دفعت كثيرًا من المعلمين إلى ترك التعليم والبحث عن مصادر رزق بديلة".
ويؤكد ذلك الأستاذ طلال محمد، مدير مدرسة أهلية في محافظة صنعاء الجديدة، مشيرًا إلى أن السنوات الثلاث الأخيرة شهدت تراجعًا حادًا في توفر المعلمين المؤهلين، خاصة في المواد النظرية، الأمر الذي يدفع المدارس للاستعانة بكوادر ليس لها أي خبرة تربوية، الأمر الذي ينعكس بشكل عام على مستوى الطلاب والطالبات على حد سواء.
- العودة إلى نظام الكتاتيب
من جانبه، دق الدكتور عبد الله صلاح، أستاذ الأدب والنقد المشارك بجامعة ذمار، ناقوس الخطر، محذرًا من أن اليمن تقف على أعتاب فراغ تدريسي خلال عقد واحد فقط، الأمر الذي قد يفرض على البلاد العودة إلى "نظام الكتاتيب"، أو حتى استقدام معلمين من الخارج.
وقال في منشور على صفحته في "فيس بوك": "قطاع التعليم الحكومي والأهلي يشهد أزمة كبيرة وعميقة، تنذر بتهديد وجودي لمستقبل الأجيال القادمة".
وأضاف: "الإقبال على كليات التربية تراجع بشدة خلال السنوات الأخيرة، ما أدى إلى إغلاق بعض الأقسام بسبب العزوف التام عن التسجيل"، مرجعًا السبب إلى غياب التوظيف منذ أكثر من 15 عامًا، وتردي الأوضاع المعيشية التي تمنع آلاف الطلاب من مواصلة تعليمهم الجامعي.
وأوضح أن "عدد خريجي بعض أقسام كلية التربية بجامعة ذمار لا يتجاوز 15 طالبًا سنويًا، رغم وجود مئات المدارس في المحافظة"، مؤكدًا أن "الأزمة تتكرر في مختلف المحافظات".
وأشار إلى أن "أجر المعلم المتمكن في اليمن قد يصبح الأعلى أجرًا بين المهن، متقدمًا على الطبيب والمهندس؛ نظرًا لندرتهم".
ويقول الدكتور عبد الله صلاح، مخاطبًا طلاب الثانوية العامة: "إن أردتم المستقبل فالتحقوا بالكليات الإنسانية، فالمعلم والمفكر والأديب هم سادة المستقبل، وإذا استمر الحال كما هو، فلن نجد في اليمن قريبًا معلمًا ولا شاعرًا ولا ناقدًا ولا مثقفًا".
- عزوف متزايد عن كليات التربية
من جانبه، أكد خبير تربوي في جامعة صنعاء أن "أزمة نقص المعلمين في اليمن ما هي إلا انعكاس مباشر للواقع الصعب الذي يعيشه المعلم، سواء من حيث غياب الحقوق أو ضعف الحوافز المعيشية"، مشيرًا إلى أن المعلم اليمني كان يعاني حتى قبل اندلاع الحرب، لكن الأوضاع ازدادت سوءًا خلال السنوات الأخيرة.
وأوضح الخبير، الذي فضّل عدم ذكر اسمه، في حديثه لقناة "بلقيس"، أن هذا الواقع دفع شريحة واسعة من الطلاب إلى العزوف عن الالتحاق بالكليات التربوية والإنسانية، والتوجه بدلًا من ذلك إلى الكليات التي يعتقدون أنها أكثر توافقًا مع متطلبات سوق العمل، ككليات الطب والهندسة والتكنولوجيا، وهو ما أدى إلى تراجع أعداد الملتحقين بأقسام التربية، بل وتهديد بعضها بالإغلاق الكامل.
وأكد أن "المعاناة المستمرة التي عاشها المعلمون دفعت العديد من أولياء الأمور إلى توجيه أبنائهم بعيدًا عن كليات التربية، بعدما رأوا أن كثيرًا من خريجي هذه الكليات لم يتمكنوا من الحصول على وظائف، رغم مرور سنوات طويلة على تخرجهم".
وأشار الخبير التربوي إلى أن الجهات الرسمية قد تضطر مستقبلًا إلى تقديم حوافز مالية للطلاب الراغبين في الالتحاق بكليات التربية، على غرار ما كان يُصرف في تسعينات القرن الماضي، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن يجد اليمن نفسه بلا معلمين.
- مساعٍ متعثرة وتوظيف مُسيّس
وفي السياق ذاته، قال مسؤول في وزارة التربية بصنعاء، فضّل عدم ذكر اسمه، إن الوزارة تعاني من نقص واسع في الكوادر التعليمية، خصوصًا المؤهلين منهم، مؤكدًا أن كثيرًا من المعلمين غادروا بسبب الحرب وانعدام الرواتب.
وأضاف، في تصريح لقناة "بلقيس"، أن المدارس الحكومية لجأت منذ 2015 إلى الاستعانة بالمتطوعين من خريجي الجامعات والثانوية العامة، في محاولة لسد العجز، مشيرًا إلى أن الوزارة قامت مؤخرًا برفع أسماء هؤلاء المتطوعين إلى المعهد العالي لإعداد المعلمين لتأهيلهم.
المسؤول ذاته أكد أن جماعة الحوثي تستغل هذه الخطوة لأغراض فكرية لا تربوية، حيث تلزم المتطوعين بحضور دورات ثقافية في "معهد الشوكاني"، لا علاقة لها بالمناهج أو علوم التربية، بل تتركز على محتوى طائفي وفق "الملازم الحوثية".
وتابع: "اشترطت الجماعة على المدارس عدم اعتماد أي معلم أو معلمة لا يحمل شهادة اجتياز تلك الدورات، التي تُعقد أسبوعيًا لمدة ستة أسابيع، وعلى حساب المدارس الأهلية نفسها".
هكذا تعيش العملية التعليمية في اليمن مرحلة خطيرة، تتآكل فيها الكوادر، وتتسع فيها الفجوة بين احتياجات الميدان وما توفره المؤسسات، ومع استمرار غياب الرواتب، وتسييس التعليم، وعزوف الشباب عن كليات التربية، تتسارع وتيرة الانهيار بصمت، فيما المستقبل يبدو غائمًا ما لم تحدث معالجات جذرية وعاجلة.