مقالات
من باندونج إلى 'شنغهاي'
سَبعونَ عَامًا مَرَّتْ على مؤتمر باندونج بين الزعماء: جواهر لال نهرو، وجمال عبد الناصر، وشوين لاي. لم يكن دم حرب العالمية الثانية قد جَفَّ بعد، وكان رأسا الاستعمار القديم (بريطانيا وفرنسا) في انحدار، وألمانيا تتقسم، وأمريكا والاتحاد السوفيتي في صعود ومواجهة، وآسيا وإفريقيا تخوضان معارك الاستقلال والتحرر، ومصر والهند والصين في الصدارة.
كانت باندونج تَعبيرًا عن روح صعود بلدان ما اصطلح على تسميته بـ«العالم الثالث»، وكانت حركات التحرر الوطني تشتعل في القارات الثلاث: آسيا، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية.
مَهَّدَ مؤتمر «التضامن الآفرو آسيوي» لبروز محور الهند ومصر والصين وإندونيسيا ومِينَامَار - سيرلانكا حاليًّا؛ وهي الدول التي تصدرت تأسيس «عدم الانحياز».
الوضع الدولي الآن أكثر خطورة على الأمن والسلام الدوليين. فأمريكا، القطب الأوحد في العالم، يتصرف حاكمه السمسار وكأنه في غابة أو في عقار دولي يخضع للبيع والشراء، ولا يعير أي اهتمام لمعاني السيادة والاستقلال واحترام الإعلانات والقوانين والمواثيق والعهود والصكوك الدولية، ويرمي بها عُرْضَ الحائط، ولا يظهر أي احترام للمجتمع الدولي ولا لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ويتصرّف في العالم وكأنّه عقاره الخاص؛ لامتلاكه المال والقوة، وخاصة في غزة، وإلى حد ما مساوماته في أوكرانيا، وفرضه الضرائب على دول العالم.
حرب الإبادة في غزة، وتهجير المواطنين الفلسطينيين منها بغرض تملكها، وتشجيع الاستيطان في الضفة الغربية، والحرب على لبنان وسوريا واليمن؛ لفرض هيمنة إسرائيل على الوطن العربي، وإعطاء أراضي دول لدول أخرى، ومنح إسرائيل الجولان والقدس.
في هذا الوضع المهدد بكارثة كونية ودمار العالم من نازية جديدة أخطر بما لا يُقاس من نازية هتلر وفاشية موسوليني. فترامب ونتنياهو يقودان إلى تسويد وتأصيل حروب الإبادة في فلسطين وتعميمها، وفرضها على عالم القرن الواحد والعشرين.
لقد عطل ترامب كل المواثيق الدولية، وأعطى الحق للكيان الصهيوني في إبادة غزة وطرد أهلها، وكأنه لا وجود للأمم المتحدة ولا منظماتها الأممية. ويأتي «مؤتمر شنغهاي» الذي حضرته الهند - أبرز مؤسسي «التضامن الآفرو آسيوي» و«عدم الانحياز»، وروسيا، وكوريا الشمالية، ومعهم عشرون دولة؛ ليكون بمثابة تأسيس جديد لنظام دولي متعدد ومتنوّع وأكثر عدالةً وأمنًا.
في المؤتمر طرح الرئيس الصيني «شي جين بنغ» خمس أولويات رئيسية لتعزيز الحوكمة العالمية:
1- ضمان المساواة السيادية لجميع الدول؛ بحيث تتمكن كل دولة -بغض النظر عن حجمها أو قوتها أو اقتصادها- من المشاركة على قدم المساواة في صنع القرار والاستفادة من نتائج الحوكمة العالمية؛ داعيًا إلى تعزيز الديمقراطية في العلاقات الدولية، ورفع مستوى تمثيل الدول النامية، وحقها في التصويت والتأثير.
2- التمسك الصارم بالقانون الدولي، واحترام مبادئ وأهداف ميثاق الأمم المتحدة بشكلٍ تام، والتقيد بالقواعد والمعايير المعترف بها دوليًّا مع رفض تطبيق المعايير المزدوجة، ورفض القواعد الداخلية لدولة على باقي المجتمع الدولي.
3- تفعيل مبدأ التعددية الحقيقية، والتمسك بمفهوم الحوكمة العالمية القائم على المساواة المشتركة، والدفاع الحازم عن سلطة وموقع الأمم المتحدة، واستثمار الدور المركزي والمحوري الذي لا يمكن الاستغناء عنه للمنظمة في إدارة الشئون العالمية.
4- اعتماد نهج يُرَكِّز على الإنسان من خلال إصلاح وتطوير منظومة الحوكمة العالمية؛ لضمان استفادة جميع شؤون العالم من نتائج هذه الحوكمة بشكل عالٍ، وتعزيز القدرة الجماعية على مواجهة التحديات الإنسانية، وتقليل الفجوة التنموية بين الشمال والجنوب، وحماية المصالح المشروعة لجميع الدول.
5- تعزيز التعاون العالمي في مواجهة التحدِّيات المشتركة؛ مثل تغيّر المناخ، والأوبئة، والأمن السيبراني، والهجرة عبر آليات تعاونية متعددة الأطراف، وبناء منظومة عالمية أكثر شفافية وشمولية واستدامة.
رَكَّزَ البيان الأول لدول عدم الانحياز على دعم حركات التحرر الوطني، وحماية السيادة والاستقلال، وعدم الانضمام للأحلاف العسكرية، وحل النزاعات سلميًّا.
وكان العنوان الرئيس هو «الحياد الإيجابي» و«عدم الانحياز»؛ وهذا يعبِّر عن طبيعة المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وأفلَ فيها نجم الاستعمار القديم، وسطع نجم المعسكر الاشتراكي وحركات التحرر الوطني.
الأولويات الخمس التي قدَّمَها الرئيس الصيني تعبِّر بعُمق وواقعية عن حالة الوضع الراهن وتعري طبيعة وخطر القطب الواحد.
تفرد القطب الواحد (أمريكا) بكوارث كونية لا نظير لها، وغير مسبوقة في التاريخ: حروب فيتنام، وأفغانستان، والعراق، وحروب أخرى عديدة ومتتالية في أمريكا اللاتينية، وإفريقيا، وآسيا. وكان نصيب الوطن العربي منها التدمير المُمنهج والعامد ضد العراق وسوريا وليبيا ولبنان والسودان واليمن، ومحاصرة مصر بالحروب من حولها. وما شهده عالم القطب الواحد كَومْ، وما شهدته وتشهده الأمة العربية كَومٌ آخر. فغزة تتعرّض لحرب إبادة وتدمير شامل من قِبَل إسرائيل مدعومةً من أمريكا؛ بحيث لم تعد صالحة للسكنى؛ حتى يتسنّى تهجير أهلها.
حرب الإبادة بدأتها إدارة بايدين، ويتصدّرها الآن ترامب كقائد دولي لحَربٍ متواصلة، وقد تمتد.
لقاء «تيانجين شنغهاي» يضع البداية للخلاص من هيمنة القطب الواحد، بتعدد الأقطاب الدولية، واستقلال إرادة الأمم والشعوب، والخلاص -وإلى الأبد- من السيطرة المطلقة للاستعمار القديم والجديد، وطغيان الإمبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية.
اللقاء إبرازٌ لقوة وإرادة العالم الحر في مواجهة طغيان الغرب الاستعماري. إنها قواعد جديدة ومغايرة للتعاون بين الأمم والشعوب، ورفع راية السلام في مواجهة الحروب والكوارث.
كان اللافت هو الحضور الإسلامي: إيران، وتركيا- العضو في الناتو، والباكستان، وإندونيسيا، وغياب الأنظمة العربية المنهوبة ثرواتها، والمنتهكة سيادتها، والمهانة كرامتها، والمطحونة أمتها وشعوبها بالحروب الاستعمارية المتواصلة في كل قطر من أقطارها.
اجتماع شنغهاي عهد جديد لنظام دولي جديد متعدد الأقطاب يَعِدُ باحترام إرادة الشعوب والأمم في تحقيق استقلالها الحقيقي والشامل.