مقالات

عودة الخروف الضائع – 5 – (سيرة ذاتية – 24)

26/11/2025, 06:39:49

بعد أن أُوصدت جميع الأبواب في وجهي قررتُ العودة للدراسة. وفي صباح ذات يوم ذهبتُ إلى مدرسة جمال عبد الناصر في شارع القصر الجمهوري، وقابلتُ الأستاذ محمد الشامي مدير المدرسة، وكلمته عن رغبتي في الالتحاق بمدرسته.

 وعندما سألني عن مستواي الدراسي، كذبتُ عليه وقلت له إنني أنهيتُ ثاني ثانوي في كلية بلقيس. وحين طلب مني إحضار شهادة النقل من ثاني إلى ثالث ثانوي، واصلتُ الكذب وقلت إنني نسيتُ الشهادة في عدن. ولأنه طيب ومؤدب فقد رحّب بي، وطلب مني فقط أن أكتب تعهّدًا بإحضار الشهادة. وبعد أن كتبتُ التعهّد تم قبولي ودخلتُ أدرس صف ثالث ثانوي أدبي.

وكانت عودتي للدراسة في صنعاء شبه مغامرة لسببين:

السبب الأول: أنني قفزتُ قفزةً عاليةً وأعلى مما يجب، وتخطّيتُ ثالث إعدادي، وأول ثانوي، وثاني ثانوي. وكان ذلك يعني أن سقوطي سوف يكون مدويًا.

السبب الثاني: أنه ليس هناك في صنعاء أحد من أهلي أو أقاربي حتى يصرف عليّ أثناء دراستي، وهذا يعني أنني قد لا أستطيع مواصلة الدراسة في تلك الظروف البالغة الصعوبة.

وأذكر أنني كنتُ أذهب إلى المدرسة وأنا بدون صبوح، وأحيانًا أذهب من دون صبوح ومن دون عشاء، وحتى من دون أمل في الحصول على غداء. وكل يوم كان الجوع يتربّص بي ويقف لي بالمرصاد. وكثيرًا ما كنتُ أدوخ من شدة الجوع. ثم، وقد صارت ظروفي المعيشية أكبر من أن تُحتمل، شعرتُ بالندم وسمعتُ صوتًا في داخلي يحثّني على العودة إلى الحديدة حيث عملي الذي تركته وراتبي الذي كان يكفيني بالزيادة.

وكان هناك صوت آخر يخوّفني من العودة، ويقول لي إنني لو عدتُ إلى الحديدة سوف يعيدونني للحزب، وهو ما كنتُ أخشاه. ذلك لأنني بعد طلوعي صنعاء، ورغم الظروف المادية الصعبة التي واجهتها، كنتُ حرًا وبكامل حريتي، وليس هناك من يطالبني بحضور الاجتماعات الحزبية الرتيبة والمكررة، ولا من يلزمني بقراءة وتلخيص تلك الكتب المملّة، أو ينتقدني لأنني قرأتُ كتبًا لكتّابٍ منحرفين عن خط الحزب. وكنتُ في صنعاء قد رحتُ أتردد على مكتبة المركز الثقافي السوري وأجد في متناولي كتبًا غير تلك التي يقررها الحزب علينا.

لكني، وبعد مرور شهرين على التحاقي بمدرسة جمال عبد الناصر، ومرور أكثر من عام على مغادرتي الحديدة، تعرّفتُ على طالب من قرية مجاورة لقريتنا اسمه: "طاهر محمد قاسم"، وكان في صف أول ثانوي. وعندما عرف بالظروف الصعبة التي أمرّ بها اقترح عليّ أن أنتقل إلى القسم الداخلي، وقال لي:
– "تعال عندنا إلى القسم الداخلي، اسكن معنا وكل واشرب وادرس".

أيامها كان طلاب القسم الداخلي للمرحلة الثانوية يقيمون في قصر الإمام محمد البدر "دار البشائر"، وفيه يأكلون ويشربون على حساب الدولة. ومع أنني اعترضتُ في البداية، إلا أن الجوع هزمني وأجبرني على الذهاب. وفي القسم الداخلي بـ"دار البشائر" رحتُ أشارك طلاب القسم طعامهم وشرابهم، وأشاركهم أفراحهم وأحزانهم. وفي القسم الداخلي تعرفتُ على طلاب من إب وذمار وريمة وعتمة ووصاب وعنّس والحدا وأرحب والمحويت ومن كل اليمن، وكانوا طلابًا طيبين ورائعين وطموحين. وبدا لي القسم الداخلي حينها كما لو أنه جنة النعيم، وأما الطلاب فكانوا أشبه بالملائكة.

وكان هناك في القسم الداخلي طلاب ينتمون للحزب الديمقراطي، وعن طريقهم عثر الحزب عليّ، أنا الخروف الضائع، وتمكن من إعادتي إلى الزريبة التي كنتُ قد فررتُ منها. ذلك لأن منظمة الحزب في الحديدة كانت قد أبلغت منظمة صنعاء عن عضو في الحزب ذهب إلى صنعاء من دون أن يبلغ مسؤوله الحزبي. وكانت العادة أو القاعدة المتّبعة أنه في حالة سفر أو انتقال عضو الحزب من مكان إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى، عليه أن يبلغ مسؤوله الحزبي بذلك، كي يحمّله رسالة إلى منظمة الحزب في المنطقة أو في المدينة التي انتقل إليها حتى يتم ترتيب وضعه الحزبي.

وعن نفسي، ولأن الحزبية لم تكن تصلح لي وليست على مقاسي، وبدت لي كما لو أنها نقيض الحرية وشكل من أشكال العبودية، فقد تملّكتني رغبة بالفرار منها. وعند سفري من الحديدة لم أبلغ مسؤولي الحزبي بذهابي إلى صنعاء، وكان في ظني أنني بعد مرور أسابيع على ابتعادي عن الحزب وغيابي عن العمل الحزبي سوف ينسونني ولن يكترثوا لذهابي وغيابي. لكن الرفاق خلال فترة وجودي في صنعاء راحوا يبحثون عن رفيق لهم جاء من الحديدة وضاع في صنعاء واختفى وانقطعت أخباره. ولم يكن هدفهم من البحث أن يساعدوني في تذليل الصعوبات التي قد تواجهني، وإنما كان هدفهم أن يجدوني ويعيدوني للحزب ويعيدوا ترتيب وضعي الحزبي.

أتذكر أنه بعد انتقالي للقسم الداخلي، وبعد أن عرف أحدهم اسمي، اندفع يعانقني ويقول لي:
– أين ضعت؟ أين اختفيت؟ الرفاق يبحثون عنك وقلقون عليك، وكان في ظنهم أنهم اعتقلوك!

وبعد أن عثر الحزب عليّ فرح بي فرحًا عظيمًا، وذكّرني بالأب الذي يفرح بعودة ابنه الضال، وبالراعي وهو يفرح بعودة الخروف الضائع والتحاقه بالقطيع، وكذلك بمالك القطيع وهو يرى جميع خرافه في الزريبة.

ومع أني فرحت بكل أولئك الرفاق الذين عرفتهم في القسم الداخلي بـ"دار البشائر"، إلا أنني لم أفرح بعودتي للحزب.

مقالات

الشعر الحميني: سردية الجذور والتحولات وزمن الظهور - (الحلقة الثانية)

تكوّنت المعرفة الأكاديمية الحديثة حول الشعر الحميني داخل إطارٍ منهجي صارم، ربط نشأته بالعصر الرسولي في القرن السابع الهجري؛ لا لأن الباحثين كانوا مقتنعين بحداثة هذا الفن، بل لأن الوثيقة -لا غيرها- هي التي حكمت دراساتهم.

مقالات

أزمة الثقة في اليمن: من انقسام الداخل إلى استغلال الخارج (٤)

مثّل انتقال السلطة في إبريل 2022 من الرئيس عبدربه منصور هادي – الذي حمل مشروع الدولة الاتحادية – إلى مجلس القيادة الرئاسي المكوّن من ثمانية أعضاء، محطة مفصلية في مسار الأزمة اليمنية. فقد جاء القرار بدون إرادة وطنية، بل استجابة لضغوط إقليمية ورعاية مباشرة من الرياض وأبوظبي، مع تأييد عربي ودولي حرص على تأكيد وحدة الكيان الوطني واستمرارية الشرعية الدستورية، وذلك تحت غطاء ضغوط الواقع العسكري والسياسي، ومحاولة لإعادة تفعيل مؤسسات الدولة وتوحيد الجهود في مواجهة الانقلاب.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.