مقالات

الشعر الحميني: سردية الجذور والتحولات وزمن الظهور - (الحلقة الثانية)

25/11/2025, 10:25:24

تكوّنت المعرفة الأكاديمية الحديثة حول الشعر الحميني داخل إطارٍ منهجي صارم، ربط نشأته بالعصر الرسولي في القرن السابع الهجري؛ لا لأن الباحثين كانوا مقتنعين بحداثة هذا الفن، بل لأن الوثيقة -لا غيرها- هي التي حكمت دراساتهم.

البحث النصي الكلاسيكي اعتمد على قاعدة بسيطة: لا يبدأ التاريخ إلا من اللحظة التي تتوافر فيها النصوص والمخطوطات والروايات التي ذكرته في زمنه وما بعده ، وأسماء الشعراء التي يمكن الإحالة إليها بثقة.

ولأن العصر الرسولي قدّم وفرة واضحة من النصوص الملحونة والموشحات ورسائل الغناء والسِّير الشعرية، فقد اعتُبر ـ بشكل شبه تلقائي ـ المهد الأول للشعر الحميني. ومنه انطلقت فرضيات التسمية، وفرضيات النشأة، وسردية الانتشار.

وهكذا حصرت الدراسات الأكاديمية نفسها داخل زمن “الظهور”، لأنها الفترة الوحيدة التي أتاحت مادة نصية كافية لبناء صورة بحثية متماسكة. ولأن الشعر الحميني كفن له سماته الخاصة وتراكيبه وإيقاعاته وأوزانه، حتى مقارنة بالأنواع الشعرية الغنائية الأخرى، قد اكتمل في عصر الرسوليين.

والحقيقة أن الدكتور جعفر الظفاري هو الباحث الوحيد الذي درس الشعر الحميني وألمّ بكل ما يتعلق به تاريخيا وفنيا، وقدمه كما لم يفعل أحد من قبل أو من بعده.

ومع ذلك، كان أغلب الدارسين واعين بأن ما لديهم - كباحثين أكاديميين- ليس سوى طبقة واحدة من تاريخ أطول وأكثر تعقيداً. لقد وقفوا عند القرن السابع، ولكن ذلك لا يغلق الباب امام فرضية امتلاكه جذوراً أعمق قد تمتد إلى ما قبل الإسلام، بل إلى الأزمنة اليمنية السحيقة التي سبقت الميلاد.

ـ غياب الوثيقة ليس دليلاً على غياب الفن «شعرا وغناء»

ومن يتتبع جذور الشعر الحميني في طبقات التاريخ اليمني القديم سرعان ما يجد نفسه أمام شبكة معقدة من المسارات تتجاوز الشعر ذاته، وتمتد إلى اللغة اليمنية القديمة، والنقوش، والمعابد، والطقوس، والهجرات الداخلية والخارجية، وما حمله اليمنيون معهم من أنماط في الترانيم التعبدية والغناء والإنشاد والترتيل والشعائر والتقاليد الصوتية.

إنها مسارات تحوّل الشواهد المتناثرة إلى سؤال بحثي كبير:
هل نكتب تاريخ الشعر الحميني من لحظة ظهوره في القرن السابع، أم من اللحظة التي بدأ فيها فعلاً باعتباره فنا شعريا يمنيا قديما وممتدا إلى أزمنة قديمة قبل الميلاد؟
بصيغة أخرى: هل حان الوقت لدراسة الجذور بدلا من الوقوف عند الظهور؟


ـ الفجوة في سردية النشأة: غياب التدوين لا يعني غياب الفن

 تتبع أي نوع فني، شعر ملحون وتراث غنائي في اليمن القديم ـ من أزمنة ما قبل الميلاد إلى ما قبل الإسلام والقرون الأولى بعده ـ يفرض على الباحث الانتقال من قراءة النصوص إلى قراءة ثقافة كاملة: اللغة اليمنية القديمة ونقوشها المسندية والزبورية، طقوس المعابد، الهجرات الداخلية والخارجية، والتراث الشفهي الذي انتقل عبر شعوب جنوب الجزيرة.

الشعر اليمني القديم، كما وصل إلينا من النقوش ومن الإشارات التاريخية ومن الروايات العربية حول امرؤ الفيس وآخرين في زمنه وقبله وبعده، كان مفعماً بالوزن والإيقاع. وسوف أتناوله بصورة موسعة في مقالة قادمة.

كما أن المعابد اليمنية ـما بين قتبان وحضرموت وسبأ وحمير ـ استخدمت الإنشاد الجماعي في طقوس الطواف والقرابين.
وهذه الممارسات ليست بعيدة عن البنى الإيقاعية التي سيظهر فيها الحميني لاحقاً:
تعدد الأصوات في القوافي المتعددة، الإيقاع القصير، التكرار، والإحالة الطقسية أو العاطفية المكثفة. وهي سمات ضمنية للشعر الملحون، وأما عدم التزام الحميني بالحركات الإعرابية واستخدامه لمفردات من اللغة اليومية لليمنيين، فهي سمات أساسية لأي شعر قديم، إذ لم تكن لديهم ثنائية عامية/ فصحى، و"الفصحى العربية"، وقواعدها النحوية، كلاهما وجدت بعد الإسلام، وكسرها الشعر الحميني في زمن ظهوره في القرن السابع الهجري.

لذلك، فإن قلة النماذج النصية من العصور القديمة لا يمكن أن تقرأ كغياب للفن نفسه، بل كغياب للتدوين أو توقفه أو ضياعه.

هذه الفجوة، أو الحلقة المفقودة، هي ما حاول الأستاذ عبدالرحمن الرفاعي الاقتراب منها في كتابه “الحميني: الحلقة المفقودة في امتداد عربية الموشح الأندلسي”، عبر قراءة تقدم نماذج من الشعر القديم وتتجاوز الاكتفاء بالوثيقة إلى محاولة إعادة بناء “المنطق التاريخي” الذي أنتج الشعر الحميني.


ـ أطروحة الرفاعي: نقل الحميني من سياق “الظهور” إلى سياق “الجذور”

تقوم أطروحة الرفاعي على فكرة بسيطة وعميقة في آنٍ واحد:
الشعر الحميني، باعتباره لونا يمنيا غنائيا ملحونا، لم يوُلد فجأة في عصر الدولة الرسولية، كما ظنّ كثير من الباحثين المعاصرين. ولم يكن الاسم مجرّد استعارة جغرافية من منطقة حمينة في حيس التهامية.

خلف هذا الفن الشعري العريق تاريخ معقّد لا يزال مهملاً، أو موزعاً بين نصوص متفرقة، وطقوس منسية، وفجوات تأريخية لم يُحسن الباحثون ربطها ببعضها البعض.

وهنا، بالضبط، تبدأ قيمة أطروحة عبدالرحمن الرفاعي؛ ليس لأنها تقطع يقينياً بأن أصل الحميني حضرمي خالص ـ من “حمن” و”حمين” في دمون حضرموت ـ بل لأنها تفتح باباً لم يُفتح من قبل: باب الجذور، لا “لحظة الاكتشاف”.

أهمية هذا الحفر في تاريخ الشعر اليمني القديم لا تقاس في الوصول إلى يقين لغوي حول التسمية، بل في كونها تنقل النقاش من “أين ظهر الاسم؟” إلى “من أين أتى الفن نفسه؟”.

أعاد الرفاعي بناء تاريخ الحميني عبر ثلاثة مستويات مترابطة، كل واحد منها يمد الآخر بالمعنى:
أولاً: المسار الشعري ـ اليمن قبل الإسلام، وقبل الميلاد. كانت بيئة شعرية كاملة.
يرى أن البيئة اليمنية القديمة عرفت الإنشاد، والطقوس الغنائية، ولغة شعرية ذات إيقاعات خاصة.
هذه البيئة تجعل ظهور فن ملحون؛ مثل الحميني في العصور الإسلامية “نتيجة طبيعية” أكثر من كونه ولادة مفاجئة.

لا يقف هذا الحفر في موروث الشعر اليمني عند امرؤ القيس في نهاية القرن الخامس بل يذهب إلى أزمنة سابقة في تاريخ اليمن القديم.

ثانياً: الهجرات اليمنية ونقلها للإنشاد وترانيم الطواف والطقوس الغنائية التعبدية.
عندما خرجت خزاعة إلى مكة مثلاً، لم تنقل معها التجارة فقط، بل نقلت معها موروثات وثقافة إنشادية لم تظهر في التدوين إلا بعد أجيال.
وكذلك فعلت قبائل اليمن القديم التي وصلت الشام والعراق وغرب الجزيرة، وحتى شمال أفريقيا.

إن انتقال الفن عبر البشر لا يعني انتقاله بالتدوين. قد يظهر في موطن جديد ويُكتب هناك، بينما يبقى أصله غامضاً.

ثالثاً: المسار الحضرمي ـ دمون، حمنان، ومعبد حمين
هنا يطرح الرفاعي صلب فرضيته: أن الاسم “الحميني” متصل بفضاء ديني قديم في حضرموت، وأن العلاقة ليست اشتقاقاً لغوياً فحسب، بل رابطاً وظيفياً بين الإنشاد الطقسي والشعر الملحون.

هذه المستويات الثلاثة لا تقدّم برهاناً حاسماً، لكنها تتجاوز القراءة السطحية للتسمية وتضع الفن في سياق حضاري أوسع.

من هنا يبرز سؤال بديهي :
لماذا ظهر الشعر الحميني في زمن الرسوليين ولم يعرف شيئا عنه قبلها؟

يقدّم الرفاعي تفسيراً وظيفياً:

هذه الظروف توفرت في العصر الرسولي، حيث شجّعت الدولة الآداب والفنون، وقدّمت للعلماء والشعراء رعاية واسعة.
هذا تفسير يطابق ظواهر معروفة في التاريخ الثقافي: أشكال فنية تبقى محلية أو هامشية حتى تنقلها طبقات اجتماعية حاكمة أو تُعيدها السياسة إلى العلن. التعامل مع هذه المفارقة باهتمام منهجي يُمكننا من إدراك متى نقرأ النصوص باعتبارها «معطى معرفي أولي» ومتى نقرأها باعتبارها «تسجيل أول لمشاهدة محلية للفن».

تحديد جذور الشعر الحميني في ازمنة سابقة لا يعني بالضرورة وجوده بالبناء الفني المكتمل نفسه في زمن الرسوليين. تحديد الجذور والبدايات لا يعني تطابق البناء الفني، بقدر ما يكشف عن تطور الشعر الحميني والغناء المرتبط به من جذور يمنية قديمة.

ـ مناخ الازدهار في العصر الرسولي: شرط الظهور

دراسة تاريخ الشعر والأدب، الغناء والموسيقى، هي في مضمونها دراسة لتاريخ المجتمع وأوضاعه السياسية والثقافية والاجتماعية.
تاريخ الشعر الحميني، بهذا المعنى، انعكاس لمناخ عام أينع فيه، وتعبير عن المجتمع اليمني وتياره الثقافي التحرري حينها وما شهده ذلك العصر من ازدهار للأدب والغناء والفنون والعلوم.

يقدّم الدكتور جعفر الظفاري، في دراسته الأكاديمية “الشعر الحميني في اليمن” (دكتوراة لندن 1966)، تحليلاً دقيقاً لهذا الظهور، وقد تأخر نشرها حتى سنة 2014.

يرى الظفاري أن الحميني كان أحد تجليات السردية الأدبية للدولة الرسولية، التي أنشأت مدارس، ورعت الأدباء، واحتفت بالعلم.
وهذا الظهور للشعر الحميني لم يكن ليحدث لولا توجهات السلطة السياسية حينها للدولة الرسولية.
« كان الرسوليون، بصورة إجمالية بعطفون على سكان المدن، ويقيمون فيهم العدالة ما وسعهم ذلك، ويرعون العلماء والأدباء ويجزلون لهم الصلات، ويشاركونهم في عملية التأليف والتصنيف».

وينقل عن مصادر تاريخية موثوقة تفاصيل سياسية ـ ثقافية تُفسّر لماذا أصبح القرن السابع الهجري محطة ظهور هذا الفن.

فالمؤسس عمر بن علي، الذي امتد حكمه من سواحل حضرموت جنوباً وحتى مكة شمالاً، كان محباً للعلم، وبنى عدة مدارس في معظم مدن اليمن الرئيسة.


والملكان المؤيد والمظفر كانا من رعاة العلم والكتب، وقد بلغت مكتباتهما عشرات الآلاف من المجلدات.
وكانوا يرسلون مبعوثين إلى خراسان لجلب نسخ نادرة من كتب التفسير، وهي وقائع تكشف عن عقلية ثقافية منفتحة، توفر بيئة مثالية لازدهار الفنون.

«الملك المؤيد بنى عدة مدارس في عدن وزبيد، وكان تقياً ورعاً وفاضلاً، محباً للعلم، بل قيل إن مكتبته الخاصة كانت تحوي ما يقارب المئة الألف من المجلدات في مختلف ضروب المعرفة الإنسانية». «أما والده المظفر فقد فاق ابنه في العلم، إذ كان مخالطاً للعلماء والأدباء أكثر من المؤيد، مزجياً معظم وقته الخاص في الانكباب على مطالعة الكتب في شتى العلوم الرائجة في عصره وإلى حد جعله متضلعاً في علوم الطب المختلفة، ومقتدراً على تصنيف عدة كتب فيها، مازال بعضها متوافراً مخطوطاً ومطبوعاً. وتتضح رغبته الشديدة في العلم وشغفه به من حادثة تتمثل في أنه عندما وجد نقصاً معيباً ومخلاً في النسخة الوحيدة التي كان يمتلكها من كتاب تفسير القرآن للإمام الرازي، أوفد مبعوثاً خاصاً إلى خراسان ليجلب إليه النسخة الأصلية التي خطها الرازي».

ـ الهجرة والانتشار الثقافي: تفسير التوزّع الجغرافي والزمني

الرفاعي يقترح نموذجاً معروفاً في دراسات الثقافة المادية: موجات هجرة متعدّدة من بؤرة ثقافية واحدة تنشر عناصرها، لكن كل موجة تخضع لشروط محلية تؤثر في بقائها وتطوّرها.

هذا يفسّر لماذا تختفي الصيغ الأصلية في موطنها بينما تزدهر كنتاج مُحَوَّل في مراكزٍ أخرى حيث التكوين الاجتماعي والسلطة متاحة، أو العكس.

هذا النموذج تقابله أمثلة كثيرة في تاريخ الفنون العالمية. وهو يجعل ظهور الشعر الحميني في القرن السابع في تعز وزبيد، وبعدها بثلاثة قرون ظهوره في صنعاء، منطقياً بدلاً من كونه دليلًا قاطعًا على أصلٍ محلي جديد.
وهو النموذج نفسه الذي يفسّر انتشار الحرف والطقوس والأساطير.

يستدل الرفاعي على الامتداد الإنشادي الجنوبي بما كانت تقوم به خزاعة في مكة:
الطواف جماعات جماعات، متشابكي الأيدي، وهم ينشدون غناءً جماعياً. وهم قبيلة يمنية الأصل. ويربط هذا الفعل بطقوس المعابد اليمنية القديمة، حيث كان الحكام “مُقَرِّبين” (مكارب)، أي رجال دين يقربون الناس إلى الآلهة. ولهذا يرى أن الطواف المكي كان امتداداً لطقس يمني قديم، نُقل إلى الحجاز مع الهجرة.

وقد أشار القرآن إلى هذا الفعل (مُكاءً وتصدية)، وذكرت كتب التفسير أنه كان سلوكاً جماعياً لخزاعة.

إذن فالتغني بالشعر وإنشاده في أماكن العبادة هي خاصية وشأن عربي جنوبي. دليل آخر يؤكد ما سبق ويقويه. يقول بالنص في كتابه:

«ما أوردته كتب التاريخ عما كان يفعله العرب في مكة حينما يطوفون حول الكعبة.
قبيلة مثل خزاعة كانوا يطوفون جماعات، جماعات، وهم متشابكي الأيدي يغنون وينشدون غناءً جماعياً، كما ورد في مصادر تاريخيّة عديدة.
ومعلوم أن سكان مكة القدامى هم من أصل يماني في القديم.
أهل اليمن أسّسوا مستوطنات على الطريق الممتد من اليمن إلى أعلى الحجاز وقد حكموا أعالي الحجاز. فقد استوطنها بداية قبائل جرهم وهم يمنيون، ثم العماليق ثم خزاعة، لدرجة أن الباحثين ذهبوا إلى أن المدينة التي وردت في كتاب جغرافية بطليموس اليوناني، ودعيت (بمكربة) (مكربا) هي نفسها مدينة مكة.. ولفظة مكربة هي لفظة عربية أصابها بعض التحريف ليناسب النطق اليوناني، أصلها (مكربة) أي (مقربة) من التقريب والتقرب...».

«إذن فخزاعة التي انتقلت إلى مكة (مكربة) لم يكن غريباً عليها أداء الطقوس الدينية في مكة أداءً إنشادياً غنائياً، الذي لم يكن شائعاً في مكة قبل أن تتسلم خزاعة السلطة في مكة من قبائل جرهم التي كان لها الصول والطول بمكة لكونهم هبطوا في ذلك الوادي قبل خزاعة،
واستمر الأمر لهم على البيت إلى أن تغلبت عليهم بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، وهم خزاعة... وانتزعت من جرهم الملك وطبقت عليهم قانون الغالب، وزحزحتها عن مكة...».

ويخلص إلى أن «ذلك الفعل كان فعلاً جنوبياً.. ولذلك نرى أهله ما إن تعود إليهم السلطة والحكم حتى تراهم يعودون لعاداتهم وتقاليدهم التي كانوا يفعلونها في موطنهم الأصل ، فالكهان القائمون على أمر تلك المعابد والهتها الوثنية أينما حلوا نشروا تقاليدهم، لذلك تحول الطواف حول الكعبة تحولاً دينياً، إنشادياً جماعياً غنائياً، حتى إن القرآن الكريم عايهم على ذلك الفعل (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّ مُكَاءَ وتصدية" سورة الأنفال آية 35.
وقال ابن عباس -رضي الله عنهماـ كانوا يطوفون بالبيت عراة، يصفقون ويصفرون، فكان ذلك عبادة في ظنهم. "جامع أحكام القرآن للقرطبي".
وقد نصت أكثر التفاسير على أن ذلك الفعل كان لخزاعة.. وأصيح سنة في قريش فيما بعد".

هذه الشواهد كلها تبيّن أن الإنشاد الطقسي كان سلوكاً عربياً جنوبياً أصيلاً، ما يعزز فرضية الجذور القديمة لفنون الغناء الملحون.

سأفرد في سلسلة مقالاتي القادمة مقالا خاصا بالطقوس التعبدية القديمة والطواف حول المزارات القديمة في حضرموت في أزمنة قديمة قبل الإسلام بعدة قرون، بالإضافة إلى الطواف والطقوس التعبدية حول الكعبة قبل الإسلام، التي ذكرها هنري جورج فارمر في كتابه عن تاريخ «الموسيقى العربية».

ـ الطقوس والإنشاد: رابط منطقي بين المعابد القديمة والشعر الملحون

إذا كان الإنشاد جزءاً مركزياً من الطقوس الدينية في الرحمانيات اليمنية القديمة ومعابد الديانات السابقة لها، فليس غريباً أن تتحول بنياته لاحقاً إلى أشكال شعرية ملحونة.
الطقس الإنشادي ينتج الإيقاع، والإيقاع ينتج الفن.
هذا أهم الأسباب المنهجية والتاريخية التي تجعل رؤى الرفاعي جديرة بالبحث.

تبيّن صفحات كتابه كيف أن الإنشاد الجماعي كان سمة في العبادة الجنوبية «اليمن القديم»، من طقوس الطواف إلى أناشيد المعابد. ربط الفعل الطقوسي بالشكل الشعري يتيح قراءة تاريخية منطقية: إن كان الإنشاد عنصراً مركزياً في الاحتفالات الدينية، فليس غريباً أن تتبلور أشكال إنشادية متخصصة (ملحون، أوزان إيقاعية خاصة، مفردات طقسية) تتحول لاحقاً إلى أشكال أدبية مستقلة. هذا الرابط بين المعبد والفن يعطي الفرضية قوة تفسيرية عندما نواجه قصور المصادر النصية المبكرة.

كذلك تفتح هذه الأطروحة الباب أمام قراءة مقارنة مفيدة: من الأندلس إلى اليمن القديم.
الفكرة التي تربط بين الموشّح الأندلسي وامتدادات يمنية ليست خالية من المنطق: وجود أنماط إنشادية متشابهة في فضاءات بعيدة تاريخياً يعتبر مؤشراً على سلاسل انتقال ثقافي. طالما أن وصول عناصر يمنية إلى الأندلس صحيحة (وعلى رأسها مهاجرون شكلوا 90‎%‎ من قوام جيوش الفتوحات)، فإن مقارنة الشكل الموسيقي والوزني بين نصوص الحميني والموشّح تمنح احتمالات اختبارية: هل هناك إطار إيقاعي أو تكرارٍ لفظي/قافوي يعيد نفسه؟ المفاضلة بين كلمات ومقاطع إنشادية قد تكشف عن بقايا أسلوبية أو تراكيب لغوية قديمة.

فرضية الجذور القديمة لا تلغي الدراسات المنهجية التي تناولت الشعر الحميني في زمن ظهوره في القرن السابع الهجري، بل تضعها في سياق تفسيري أعمق.

من الخطأ قراءة فرضية الرفاعي كمحاولة لنفي كتابات ودراسات من سبقوه أو جاءوا بعده. بدلاً من ذلك، ينبغي اعتبارها دعوة إلى إعادة تأطير النتائج التي توصلوا إليها: ما رصدوه من ظهور في زمن محدد يظل صحيحاً بوصفه أول ظهور موثق، لكن الرفاعي يسأل: هل هذا هو مولد الفن، أم مجرد «اكتشاف حديث» لهذا الفن داخل إطار جديد؟ التفريق بين الظهور الوثائقي والأصول التاريخية، أساسي وذو أهمية عالية في كل بحث تاريخي موسع.

وهذا هو شرط القراءة الحقيقية للشعر الحميني:
أن نراه جزءاً من تاريخ اليمن وجذور هويته وموروثاته الثقافية.

وفي الحلقات القادمة سأتابع تفصيل المحاور الثلاثة التي طرحها الرفاعي، وأعيد تركيبها ضمن مشروع بحثي يضع الشعر الحميني داخل السياق اليمني القديم، الشعري ـ الطقسي ـ اللغوي، حيث نشأ، وتحول، واحتجب، قبل أن يظهر من جديد.

مقالات

أزمة الثقة في اليمن: من انقسام الداخل إلى استغلال الخارج (٤)

مثّل انتقال السلطة في إبريل 2022 من الرئيس عبدربه منصور هادي – الذي حمل مشروع الدولة الاتحادية – إلى مجلس القيادة الرئاسي المكوّن من ثمانية أعضاء، محطة مفصلية في مسار الأزمة اليمنية. فقد جاء القرار بدون إرادة وطنية، بل استجابة لضغوط إقليمية ورعاية مباشرة من الرياض وأبوظبي، مع تأييد عربي ودولي حرص على تأكيد وحدة الكيان الوطني واستمرارية الشرعية الدستورية، وذلك تحت غطاء ضغوط الواقع العسكري والسياسي، ومحاولة لإعادة تفعيل مؤسسات الدولة وتوحيد الجهود في مواجهة الانقلاب.

مقالات

نتانياهو وكابوس الدولة الفلسطينية

عشية التصويت على القرار الأميركي في مجلس الأمن الدولي استمات رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، في تأكيده على استحالة أن تكون هناك دولةٌ للفلسطينيين على أرضهم المحتلة.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.