مقالات

غزة.. عن الخراب النفسي الواسع

18/12/2023, 13:23:08

لا أتوقف كثيراً مع من رحلوا. أُفكِّر بمن تبقّى. كم من خرائب في نفوسهم. كم من جهد مطلوب؛ كي يستعيدوا عافيتهم. كل بناية تهدّمت في الخارج هدمت معها زاوية من نفوس المفجوعين. الانهيارات لا تحدث مفصولة عن البشر، هدم المكان ليست جريمة مادية، بل هي تخريب نفسي عميق للإنسان.

وأنت تتابع منشورات الناس، تدرك حجم الخراب المعنوي الممتد في كامل بقاع الأرض؛ لكن العربي أكثرهم شعورًا بالفجيعة؛ لكونه أكثرهم تماهيًا مع المذبحة، فهي حادثة ضمن نسيجه الاجتماعي والثقافي. الناس خائفون، وكل جثة تسقط تترك موتًا في أرواح من يتابع المأساة، ومن ينتمي للقضية. كل ضربة جوية تُعمِّق احتقارنا لذواتنا وتبث شعورًا بتلاشي قيمة الحياة.

يشعر العربي بأنّه مكشوفًا وذليلًا، ولا يملك قوة تحميه، أو زعيما يذود عن نفوس الجماهير الخائفة. هذا العجز القاهر تجاه ما يجري في غزة ليس قضية هامشية بالنسبة للعربي. فعندما يتعلق الأمر بالعافية النفسية للشعوب، فإن ما يجري هو تهشيم بطيء لشخصية العربي. نحن أمام أمة كاملة تتعرّض للاستباحة، وليس قطاع صغير اسمه: غزّة.

مرة أخرى، هذه الحرب لم يقتصر أثرها على أهل القطاع، بل تمتد لنفوس كل البشر الذين تابعوا الفظاعات، وتماهوا معها. هناك كلفة نفسية ثقيلة تسبب بها المحتل، وهو يتفنن في سحق الحياة بتلك الطريقة المهولة. ما يقوم به الغرب ليس انحيازًا فاضحًا للاحتلال وتأييدًا للجريمة، بل مغامرة خطيرة زعزعت كل الأسس الأخلاقية، هدم للقيم التي كان الناس يعولون عليها لحمايتهم.

هذه العجرفة المستمرة لن تزول آثارها لمجرد أن تنطفئ نيران الحرب. ستواصل النفوس غليانها، وتنتشر النيران في أماكن كثيرة. نحن أمام خرق واسع يتشابك فيه المادي والمعنوي. جريمة مفتوحة يصح القول إنها واقعة كونية، لا أحد بمقدوره أن يحيط بصداها الآن.

قبل الحرب كان العربي بحدسه الطبيعي يرفض أي منطق عدائي شامل تجاه الغرب، ويميل نحو فكرة التعايش مع الآخر بصرف النظر عن أي خلفية يعتنقها الآخرون. غير أن الحرب، وهي تستبيح الفلسطينين بتلك الصورة المتطرفة، ولدت حالة ارتياب تجاه هذا الآخر الذي يبدو مستعدًا لتحطيمك بشكل تام دونما اكتراث لأي مبدأ عادل في الحياة.

الخلاصة: أمريكا، ومن وراءها كل الدول الداعمة للاحتلال، مسؤولة عن هذا الفزع المنتشر في كل مكان. العالم الأبيض مسؤول عن نشر الكآبة العريضة في مئات ملايين البشر، وربما مليارات. هذه الواقعة الدامية ليست حادثة عرضية يمكن ترميم أثرها، بل فاتحة لنزاع طويل، أشبه بشطر مؤلم بين عالمين، ارتجاج تشتد قوته في المنطقة العربية، لكنه يمتد ليضرب عمق المجتمع الإنساني كله، وفي مقدمته الغرب المرتكب لهذه الجناية الكبرى.

"إنّ الحرب على الإنسان، المستعرة في كل مكان، هي ليست بُشرى لأحد، ليس لأنّها خبر فلسفي سيّئ؛ بل لأنّها نابعة من قرار أوروبي بتدمير العالم، اتّخذته الإنسانية الأوروبية منذ بضعة قرون، وهو لا يزال ساري المفعول كأفق أخلاقي للعقل العلمي نفسه. وذلك طالما لم تقم إنسانية أخرى بافتكاك المشعل الميتافيزيقي من الغرب، والإقدام على اختراع علاقة جديدة، وغير أوروبية تمامًا بلحم العالم. عندئذ فقط، يمكنها أن تساهم في إعادة المعنى إلى العالم، ومن ثمّ، الشروع مرة أخرى في تنصيب الإنسان في مكانه".

مقالات

ما بعد غزة وما بعد إيران

في إعلان الحرب على غزة حَدَّدَ نتنياهو الهدف الرائس: القضاء على حماس، وعودة الرهائن. كان القضاء على حماس مَطلوبًا، إلا أنَّ الهدف مِنْ وَراء ذلك هو القضاء على غزة بحرب إبادة يشنها عبر القصف المتواصل، والحصار القاتل. وَمَنْ لم يُقْتَل بالقصف والتجويع تَقتلهُ «المساعدة الإنسانية»: الإسرائيلية الأمريكية!

مقالات

حرب إيران وإسرائيل.. حقائق صادمة ومفارقات متضاربة

بصرف النظر عن نتائج الضربات الجوية الماحقة التي شنتها القوات الأميركية على معظم منشآت إيران النووية، وما إذا كانت سوف تغير من مجريات الصراع في المنطقة، إلاَّ أن أكثر ما استرعى انتباه ودهشة المراقبين، قبل ذلك، هو سلسلةُ المفاجآت اليومية التي كشفت عنها الحرب الإيرانية- الإسرائيلية المباشرة. أولها أن الصواريخ البالستية والمسيَّرات التي زودت بها إيران أذرعها في العراق وسوريا ولبنان واليمن لم تكن، في أفضل حال، سوى أدواتٍ لتجريب أسلحتها ذات الفاعلية العسكرية الكبيرة، على غرار ما شهدناه في مواجهتها الراهنة مع إسرائيل. لكن المؤسف أن تلك التجارب لم تفد إيران، ولم تلحق أي ضررٍ بإسرائيل، بل كلفت بلدان تلك الأذرع استباحة أراضيها من قبل جيوشٍ عالميةٍ كبرى يستحيل كسرها، وأدت إلى سلب إرادة شعوب، وانتهاك سيادة دولٍ لم يكن بالإمكان التعدي عليها لولا التدخلات الإيرانية في شؤونها، فضلًا عن تدمير بناها التحتية الأساسية، وعودتها عقودًا من الزمن إلى الخلف يصعب تعويضها.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.