مقالات
عندما ترتجف المليشيا من فنان!
لا شيء يُرعب الطغاة كصوت الفن، ولا شيء يُعري القبح السلطوي كجمال النغمة الصادقة. الفن ليس ترفًا، ولا مجرد وسيلة للتسلية في حياة الشعوب. الفن، بمعناه الحقيقي، وعيٌ جمالي عميق، وحسٌّ تاريخي يتجلّى في أوضح صوره حين تُعزف الحقيقة في وجه الكذب. ينبثق كثورةٍ معنوية عندما تُغنّى الحرية في مسرح السلاسل. الفن، بمجمله، هو حين يُرتّل الوطن في زمن الملكية السلالية!
الأغنية هي أكثر ما يوقظ الذعر في بنية الاستبداد. إنها جهازٌ لبعث الذاكرة، وتكسير العبودية التي تتسلّل إلى النفوس على هيئة لحن. الأغنية الجمهورية، في جوهرها، نظامٌ مضاد، وبنية لغوية تُشظّي كيان السلطة المغلقة. ولهذا، لا تحتاج الطغمة إلى توضيح أسباب اعتقال فنان؛ فالتهمة لا تُلفظ، التهمة هي الوعي، والوعي حين يُغنّى، يُصبح عدوًا وجوديًا للوصاية.
على مرّ التاريخ، كان الفن في اليمن دومًا في قلب الإنسان اليمني، جزءًا من طقوسه اليومية، من فجره وأسواقه وألمه. تكفيك نظرة سريعة إلى وجوه الناس حين تنبعث الأغنية من مكبّر صغير على عربة بائع متجوّل، أو من استوديو في أحد أزقّة المدينة، لترى كيف يتحوّل الصوت إلى ما يشبه الصلاة، وكيف تتسع الأعين كأنما التقطت ضوءًا من جهة الخلاص. الفن في اليمن طقسٌ وجودي، يمارسه الناس بلا تنظير، يؤمنون به بالفطرة، يلتجئون إليه كمن يلتجئ إلى الله حين تضيق الأرض.
هكذا يُغنّي اليمني، لا لأنه شبعان، ولا لأنه مُترف، بل لأنه يريد أن يبقى إنسانًا في وجه القبح. الفن هنا مقاومة. واللحن، حين يُعزف، يتحوّل إلى إعلان تحدٍّ ضد الخراب. ولأن الأغنية اليمنية ارتبطت بالوطن، وبالحرية، وبالكرامة، فقد أصبحت كابوسًا في ظل أنظمة القمع، وجريمة لا تُغتفر.
الحوثي يخشى الكلمة حين تُغنّى، ويخشى الصوت حين يعلو خارج منابر الكراهية. لأنه يدرك تمامًا أن الأغنية فعلُ تحريضٍ ناعم ضد القمع والاستبداد. إنه يعي جيدًا أن الفن الحقيقي يزعزع أركان أي سلطة تستند إلى الخرافة والخوف. لذلك، كان اعتقال الفنان خليل فرحان انعكاسًا لهذا الفزع. لم يُعتقل لأنه شذّ عن القانون، بل لأنه التزم بوطنه. لأنه غنّى “الجمهورية” في زمن “الإمامة”، ولأنه عزف لحن الدولة في وجه ميليشيا لا ترى في الفن سوى تهديدٍ لعقيدتها الخرافية.
الأغنية الوطنية، تحديدًا، تفضح جوهر الصراع. إنها عقدٌ روحي بين المواطن والدولة، بين الإنسان وتاريخه. وعندما تغني “بلقيس” أو “الوحدة” أو “يا بلادَ الخيرِ يا أرضَ السبأْ”، فأنت لا تستدعي الماضي فقط، بل أنت هنا تستحضر خريطة الكرامة التي يحاول الحوثي تمزيقها. تعيد رسم ملامح اليمن الذي حاولوا سلخه من ذاكرته، وتجعل من اللحن وثيقة مقاومة.
في فكر الجماعات الكهنوتية، لا مكان للفن، لأنه يعارض البنية المغلقة التي يُقيمون عليها سلطتهم. الفن يُحرّض على التفكير، والأنظمة المغلقة لا تطيق التفكير، لأنه يؤدي حتمًا إلى الرفض. الأغنية اليمنية كانت دومًا مع الحرية، ومن يُغنّي للحرية، هو بالضرورة عدوٌ للإمام.
اعتُقل الفنان خليل فرحان، وليس هو وحده من اقتيد إلى السجن، بل جميعنا من شعرنا بالتكبيل؛ لأنهم هنا حاولوا اعتقال “الجمهورية” نفسها، وتقييد صوتها بالسلاسل، كما يُقيَّد الشهيد في محكمة ظالمة. لم يحتملوا أن يُعزف الوطن على وتر، لم يحتملوا أن تُقال كلمة “جمهورية” أمام شعاراتهم الرخيصة. فزجوا به في الزنزانة، اعتقادًا منهم أن السجن يوقف النغمة، ويكسر المعنى.
في تصوّر المليشيا، كل لحنٍ لا يسبح في فضائها مغشوش، وكل صوتٍ لا ينحني، مشروع تمرد. بيد أن الفن لا يستعير المرايا، ولا يطلب الإذن من العمائم. الفن لا يخضع، لأنه لا يُخلق ليُطيع، بل ليكشف. ولهذا السبب تحديدًا، لا تُزعجهم البنادق كما تزعجهم الأصوات الشفافة، تلك التي تسري داخل الناس دون خطاب، دون إرشاد، دون رقيب.
خليل لم يكن يغنّي، كان يُعيد تشكيل الخارطة الذهنية لليمن، خارطة لا تحتملها الجغرافيا الإمامية. جمهورية تُغنّى، أشدّ خطرًا من جمهورية تُكتب، لأن الموسيقى تدخل بلا مفاتيح، تُسكن القلب، وتُزلزل المسلّمات. ومتى ما غنّى الناس لليمن، ماتت الخرافة، وسقطت السلالة من مكانتها المتوهّمة.
المليشيا كائنٌ عاجز عن التعامل مع الجمال؛ لأنها لا تعرفه. لا ترى في الفن سوى انزياحٍ عن نظام الطاعة. لذا تُطارد اللحن لأنه يخرج من النص، يفضح الكذب المصفوف في الخُطب، يُخلخل المعجم الديني المغلق، ويمنح الإنسان صوتًا آخر خارج العويل والموت. الفن كائنٌ حر، وهذا وحده كافٍ لإدانته في محاكم المليشيات.
الفنان خليل فرحان سجينٌ في وعي الجماعة – لا في الزنزانة – في خوفها، في ارتباكها من صوتٍ لم يُصنَّع في مراكز “الهُدى” حسب تعبيرهم المضلِّل، ولم يُطبَع على أوراق النسب. حين يعتقلون فنانًا، فإنهم لا يُصادرون جسدًا، إنهم هنا يحاولون كتم ملامح لا تزال تقاوم الزيف، أغنية ترفض أن تُلوَّن بالسلالة، صوتًا يُصرّ أن يقول: الجمهورية نبض، وليست ذكرى.
عندما يُعتقل اللحن، تتّضح حينها معالم المعركة: إنها ليست بين جبهة وجبهة، وإنما هي معركة بين العالم كإمكانية للانفتاح، وسجنٍ لغوي مغلق، تُديره العمائم ويحرّسه الخوف. الفن نقيض الخوف، ولهذا يُحاصَر. الصوت نقيض الطاعة، ولهذا يُسجَن. الموسيقى لا تؤمن بالولاية، بل بالتعدّد، لا تعرف الثنائيات، بل التنوع، لا تُقدّس القائد – الطاغية – بل تحتفي بالإنسان.
الحوثي يدّعي أنه مع “الهوية الإيمانية”، لكنه، في الحقيقة، يخاف من أي صوتٍ لا يُسبّح بحمده. والأغنية الوطنية هي أقوى أشكال العصيان، لأنها تغني للجميع، لا للفقيه وحده، ولأنها ترفع علم الدولة، لا راية السلالة. كل فنان يمني يحمل في حنجرته ذاكرة شعب، هو بالنسبة للحوثي عدو، لأن كل لحن وطني هو حجرٌ آخر في جدار المقاومة التي تقضّ مضاجع الكهنوت.
الفن لا يُعتقل؛ بل يُخلَّد، والأغنية الجمهورية لا تموت حين تُمنع، لأنها تولد في كل من سمعها وانكسر، ثم قام.
الفن في اليمن كان ولا يزال “محراب البسطاء”، و”صرخة المهمشين”، و”صوت الجمهورية العالق في ضمير الأرض”. ولهذا، سيبقى الحوثي يطارد الأغنية، كما يطارد الحلم، لأنه يدرك أن من يُغنّي لوطنٍ حر، لا يمكن أن يُسجَن طويلاً.