مقالات

صنعاء التي ترتجف.. حين يصبح الخوف نظام حكم

11/11/2025, 14:02:28

يرتابها القلق من كل جانب، ويتسلّل الخوف إلى مسامّها كهواءٍ ثقيلٍ لا يُرى، يداهمها بين الحين والآخر كضيفٍ لا يُغادر، ويهزّ كيانها كلّ من يكتب حرفًا أو يهمس بوجه الحقيقة.

توغّل الذعر في عمقها حتى صار الناس يسيرون في الشوارع كأنهم يمشون فوق أرضٍ ملغومة، يلتفتون خلفهم في كل خطوة، يراقبون أنفسهم قبل أن يراقبهم الآخرون. تحوّل الخوف إلى طقسٍ يوميّ، وإلى ظلٍّ يرافقهم أينما ذهبوا. كلّ عابرٍ في نظر الجماعة الحوثية مشروعُ تهمةٍ، وكلّ صامتٍ احتمالٌ للخيانة. هذه الجماعة منظومة تُبنى على الشكّ، وتستمدّ سلطانها من الرعب، حتى غدت الحياة في مناطق سطوتها اختبارًا مستمرًا للنجاة، إذ أصبح الناس هناك يعيشون مناخًا قاتمًا.

وفي هذا المناخ الأكثر تعتيمًا، لم تسلم الأيادي البيضاء من بطشها. فها هو محمد مارش السلمي، الرجل الذي كرّس حياته للأعمال الإنسانية، يُختطف من بين الناس دون ذنب. كرئيسٍ لجمعية الأقصى، عمل السلمي على مشاريع دعمٍ لأبناء غزة، حمل همَّها، وجمع ما استطاع من أجلها، مؤمنًا أن نصرة المظلوم واجبٌ لا يُؤجَّل.

غير أن الجماعة التي تزعم وقوفها مع غزة، هي ذاتها التي اعتقلت من ناصرها بالفعل. هكذا تتجلّى الخديعة الحوثية في أوضح صورها؛ شعاراتٌ عالية الصوت، وأفعالٌ مناقضة للضمير الإنساني. من يرفع صوته لأجل الحق يُكمَّم، ومن يمدّ يده للخير تُكسَر أنامله.

ما يزال السلمي قابعًا خلف القضبان منذ يونيو الماضي في سجن الأمن السياسي بمحافظة إب. الجدران تضيق عليه، والأمراض تنخر جسده المنهك. قبل سنواتٍ تعرّض لحادثٍ مروّعٍ أفقده نصف جمجمته، وثُبّت في وجهه صفائح معدنية، ثم أجرى عملية قلبٍ مفتوح قبل أشهر، ورغم كلّ ذلك تُصرّ الميليشيا على تركه يواجه أوجاعه وحيدًا.

 أسرته لا تعرف عنه شيئًا، لا تُدرك إن كان حيًّا يئنّ أم مريضًا يحتضر. جسده يحتاج دواءً يوميًا، غير أن الدواء حُرِم منه حتى تدهورت حالته تمامًا. منظمة "رصد" ذكرت مؤخرًا أنه نُقل إلى المستشفى ثلاث مراتٍ خلال أسابيع قليلة، والميليشيا تتستّر على وضعه كما تتستّر على جرائمها جميعًا.

تتحوّل صنعاء وإب كلَّ يومٍ إلى مسرحٍ جديدٍ للرعب. الانتهاكات تتكاثر، والمعتقلات تمتلئ، والشوارع تبتلع أسماءً جديدة. المواطن البسيط يعيش في خوفٍ دائم، يخشى أن يتنفس بغير إذن، أو يعبّر عن فكرةٍ في غير موضعها. لقد صار الخوف نظامًا عامًا، إذ بات السكوت ميثاقًا للبقاء. يخاف الفرد من صديقه، ويتوجّس الزميل من زميله، حتى المجالس تحوّلت هناك إلى مصائد تُسجَّل فيها الكلمات وتُرسَل إلى الميليشيا في بلاغاتٍ جاهزة. لم يعد الناس يتحدثون عن السياسة، فقد أصبحت السياسة لعنة، والكلمة سكينًا تُذبح بها الرقاب.

ومن الأمثلة المؤلمة، الناشط الحقوقي رشدي علي حاتم، أحد الشباب الجمهوريين الذين لم يخضعوا لجبروت الحوثي. في ذروة التوترات الأمنية، ولا سيّما في سبتمبر، كان رشدي يقول الحقيقة ويرفض حكم السلالة عبر بثوثٍ مباشرة على صفحته في "فيسبوك". تلقّى تهديداتٍ متكرّرة من قياداتٍ حوثية، بل وتعرّض لابتزازٍ من أحد أصدقائه في "المقيل" بعد أن سجّل له حديثًا كان ينتقد فيه الجماعة. لكن رشدي لم يتراجع، بل واجههم علنًا قائلًا عبر صفحته في "فيسبوك": "لست خائفًا، وسأواجه كلّ قيادات الحوثي." ومنذ السادس من سبتمبر الماضي ما زال مخفيًّا في معتقلات الحوثي؛ هكذا فعل رشدي حاتم، وهكذا غدا رمزًا لفكرةٍ بسيطةٍ وعظيمة؛ إذ إن الإنسان حين يواجه، يُسقِط الخوفَ لا السلطة.

تعتمد الميليشيا نهج التخويف والابتزاز لتفكيك المجتمع من جذوره. تزرع الوهم والشكَّ في العلاقات الإنسانية حتى تفقد المجتمعات مناعتها. تغرس الريبة في قلوب الناس وتحولها إلى مرضٍ مزمن؛ كي يصبح الصمت وسيلةً للحياة، وكي يغدو التفكير خطرًا، والاختلاف خيانة. الحوثيون يزرعون الرعب كما يزرع الفلاح القمح، يعتنون به، يسقونه بالدعاية والخطاب الديني، حتى ينمو جيلٌ خائفٌ من كلّ شيء، مطيعٌ بلا وعي. مجتمعٌ محكومٌ بالخوف لا يمكن أن يثور، ولا أن يحلم، ولا أن ينهض. وحين يصبح الخوف جزءًا من التربية، يتحوّل الاستبداد إلى روتينٍ يومي، فيغدو الطغيان مشهدًا مألوفًا في تفاصيل اليوم.

وفي هذا الجوّ من التكميم والترهيب، جاء اعتقال الدكتور حمود العودي شاهدًا جديدًا على ضيق أفق الجماعة. العودي لم يقتحم مؤسسة، ولم يرفع شعارًا في الشارع، إنما كتب. كتب بما يمليه عليه ضميره، فارتجفوا. قلمه كان أكثر فاعليةً من سلاحهم، وصوته أبلغ من خطبهم. تعرف الميليشيا أن الكلمة الصادقة تهزّ عروشهم، لأن الوعي عدوّهم الأول. العودي ذاكرة اليمن الفكرية، وواحدٌ من قاماتها التي لا تُقاس بالألقاب. عندما يكتب، يقرأ له الناس في كل ربوع البلاد، وحين يصمت، تفتقده العقول قبل الآذان. اعتقاله هو إعلانٌ صريح عن خوفهم من الكلمة، لأن الكلمة هي الجسر الذي يربط الناس بالحرية، فحين يُهدَم الجسر، يبقى الطغاة وحدهم في ظلامهم.

مقالات

مأساة الفاشر .. ما أشبه دارفور اليوم بالبارحة

قصص قتل واغتصاب وسلب ونهب وقرى محروقة، وبقايا منازل مهدمة، وحيوانات مقتولة أو نافقة، ولا حياة في عدد من القرى حول مدينة (الفاشر)، كبرى مدن الولاية في إقليم دارفور غربي السودان، بدت أثراً بعد عين، وكل شيء كان يقول إن "الجنجويد مرّوا من هنا".

مقالات

اليمن.. عائدات غائبة وثروات مسروقة

وكأنّ الخراب في اليمن لم يعد حدثًا استثنائيًا، بل صار حالةً يوميةً تتنفّسها البلاد. مفارقةٌ طويلةُ العمر، يتجاور فيها الجمال الطبيعي مع الفوضى الاقتصادية، وتتماهى فيها ثرواتٌ لا تُضاهى مع واقعٍ يزداد فقرًا كلما ازداد انغماسًا في الفوضى. بلدٌ يمشي فوق كنوزه وكأنه لا يراها، ويصدّر أفضل ما لديه، بينما يزداد شعبه جوعًا لما تبقّى.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.