مقالات

حين تبكي الشعوب صور حكّامها: علي عبدالله صالح نموذجًا

28/07/2025, 12:18:13

- تفكيك العلاقة النفسية بين الإعلام والذاكرة الجمعية

حين قُتل علي عبدالله صالح في أواخر عام 2017، سالت دموع كثيرة في بيوت اليمنيين، خاصةً من البسطاء والنساء والأمهات، ومن جيلٍ كاملٍ من المراهقين الذين نشأوا وأعينهم معلقةٌ بصورته.

بدا ذلك المشهد محيرًا لكل من يعرف تاريخه ويدرك ما خلّفه من أوجاعٍ ومآسٍ لشعبٍ بأكمله، لكن سرَّ تلك الدموع لم يكن حبًّا واعيًا بقدر ما كان نتيجة عادةٍ ذهنيةٍ وعاطفيةٍ تشكلت بهدوءٍ على مدى عقودٍ طويلة.

طوال أكثر من ثلاثين عامًا، لم يكن صالح حاكمًا سياسيًا وحسب، بل كان حضورًا يوميًا طاغيًا يتسلل إلى كل بيتٍ عبر شاشة التلفزيون الرسمي، وعبر صوره المعلقة في المدارس والمؤسسات وحتى على جدران القرى النائية.

اعتاد كثيرون رؤية صورته يوميًا أكثر مما رأوا أقرب الناس إليهم، حتى صار الارتباط العاطفي به — رغم بعده عن حياتهم فعليًا — أعمق من ارتباطهم بأحبائهم الذين ينامون تحت سقفٍ واحد.

كبرت أجيالٌ وهي ترى وجهًا واحدًا بلا بدائل ممكنة. وعندما وُلدت أسئلةٌ وتجاربُ بديلةٌ، جرى وأدها أو تشويهها بالصوت نفسه الذي ضخَّ الصورة يومًا بعد يوم، حتى بدا وكأنه وحده الممكن، وحده القادر، وحده الذي يشبه الوطن في أذهان الكثيرين.

لم تكن آلة الصورة وحدها هي السر. فثمّة أجيالٌ شابة لا تتذكر رخاءً حقيقيًا قبل صالح، ولا تعرف إلا فتاتًا شحيحًا صُوّر لها وكأنه «أفضل الممكن».

كثيرون منهم يقارنون حياتهم البسيطة في عهده بحياة شعوب الجوار الأغنى، فيقنعون أنفسهم بأن القليل الذي عاشوه معه كان نعمة. يغيب عن أذهان بعضهم أن ذلك «النعيم القليل» كان شحيحًا مقارنةً بما عرفه اليمنيون في عهد الرئيس الحمدي، الذي اغتيل قبل أن تكتمل ملامح مشروعه.

لقد نُسي أن دولة المؤسسات التي يتفاخر بها البعض اليوم كانت ثمرة مشروعٍ قصيرٍ بدأه الحمدي في أقل من ثلاث سنوات، حين كان صرف الدولار لا يتجاوز أربعة ريالات ونصف الريال، قبل أن يُغتال المشروع نفسه ويبدأ الانحدار طويلًا حتى خرج صالح من السلطة وقد بلغ سعر الصرف أكثر من 250 ريالًا. وما بين البدايتين، جرى إفراغ المؤسسات من محتواها، وتحويل الأجهزة الرقابية التي أنشأها الحمدي إلى ديكورٍ شكليٍ عاجزٍ عن ردع الفساد الذي تغذّى عليه النظام لعقودٍ بلا مساءلة.

ليست هذه القصة جديدةً في تاريخ الشعوب.

 حين يُغتال البديل أو يُشوَّه أو يُحرَّف، يُترك للناس وجهٌ واحدٌ يتكرر حتى يغدو كالأب الرمزي الذي لا يُسأل: من أنت؟ ولماذا أنت وحدك هنا؟

لهذا لم تكن دموع كثيرين يوم مقتله حنينًا لطغيانٍ عاشوه، بل رثاءً لصورةٍ أُلصقت بذاكرتهم أكثر من وجوه من أحبوهم حقًا. 

رثاءً لعادةٍ يوميةٍ هندسها إعلامٌ موجَّهٌ بعناية، ليُدخل الطغيان إلى أعماق الوعي في هيئة أبٍ حانٍ ووطنٍ مصغّر.

واليوم، بعد سنواتٍ من رحيله، ما زال بعض الناس يتعلقون بتلك الصورة، وكأنهم يخشون مواجهة سؤال الحقيقة: ما الذي بكيتَه حقًا؟ إنسانٌ بأخطائه وسلطته؟ أم صورةٌ عُلِّقت على جدار عقلك دون إذنك؟

قد لا نستطيع أن نرجع الزمن لنمنع آلة التضليل تلك، لكن يمكن لكل فردٍ أن يراجع صورته الداخلية بصدق: أن يسأل من كان هنا قبل هذا الوجه، ومن أُقصي ليبقى وحده، ومن صُنعت حوله الأساطير ليُحجب عنه الحساب.

ربما يبدأ الخلاص حين ندرك أن قلة النعيم التي مُنحت لنا لم تكن مكرمةً بقدر ما كانت تكتيكًا: أن يبقى الناس مقيدين بشعور الحاجة إلى القليل الذي صار كثيرًا في أعينهم مقارنةً بغياب كل شيء.

وما من حريةٍ أصدق من أن يرى الإنسان الحقيقة بلا رتوش، ويعيد ترتيب ذاكرته بجرأة، ويخلع بيديه قناعًا فُرض عليه يومًا باسم الوطن.

في النهاية، لا أحد يستطيع أن يمحو الماضي، لكن بإمكان كل جيلٍ أن يكسر وهم الصور الملفقة، ويعيد الاعتبار للبدائل التي وئدت، وللأسئلة التي أغلقت. فحرية العقل هي الخطوة الأولى نحو حرية الأوطان.

مقالات

اليمن في قلب حرب صامتة

لم تعد الحروب في هذا العصر تتطلب إعلانًا رسميًا أو دويًا للمدافع كي تبدأ، فقد دخل اليمن، ومعه عدد من دول الإقليم، في مرحلة "الحرب الصامتة"، أو ما يُعرف في الأدبيات الإستراتيجية الحديثة بحروب "الجيل الرابع والخامس"، حيث تُخاض المعارك دون جبهات تقليدية، بل عبر أدوات خفية تتمثل في الحصار الاقتصادي، الإغراق الإعلامي، تفكيك مؤسسات الدولة، وإعادة إنتاج الفوضى بأساليب غير معلنة.

مقالات

معركة النفس الأخير

نهاية صالح تشبه نهاية العقيد الليبي معمر القذافي. تقديري أن كل من شاهد الفيلم الوثائقي في قناة العربية، أو البعض منهم، سيخرج بهذه النتيجة.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.