مقالات
الانتقالي والتطبيع.. مسار يعيد إنتاج الارتهان وينسف شرعية 14 أكتوبر
منذ انطلاقتها في 14 أكتوبر 1963، رفعت الثورة اليمنية في الجنوب هدفا استراتيجيا واضحا تمثل في انتهاج سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، انسجاما مع روح حركات التحرر الوطني التي سعت إلى بناء دول مستقلة القرار، بعيدة عن الاستقطابات الحادة بين المعسكرين الرأسمالي الغربي والشيوعي الشرقي.
كان هذا الهدف تعبيرا عن إدراك مبكر لخطورة تحويل الجنوب اليمني إلى ساحة نفوذ لصراعات القوى الكبرى، ورغبة في صياغة سياسة خارجية متوازنة تحفظ المصالح الوطنية وتؤسس لاستقرار داخلي متين.
غير أن هذا التوجه سرعان ما تلاشى بعد الاستقلال عام 1967، حين اختارت القيادة الجديدة في عدن الانحياز الكامل إلى المعسكر الشيوعي، وتبنت نهجا ماركسيا لينينيا صريحا على المستويين السياسي والفكري. لم يكن ذلك مجرد اصطفاف خارجي، بل تحولا أيديولوجيا عميقا أعاد تشكيل البنية السياسية والاجتماعية للجنوب، وفتح الباب أمام صراعات داخلية حادة اتخذت من الشعارات الفكرية واجهات لصراعات مناطقية وسياسية متجذرة.
ومع مرور السنوات، تفاقمت الانقسامات وتحولت الخلافات السياسية إلى مواجهات دموية، كما حدث في صراعات السبعينيات وأحداث يناير 1986، التي كشفت بوضوح هشاشة البنية الوطنية أمام تغول الاصطفافات الأيديولوجية والمناطقية. كما أدى الارتهان للمعسكر الشيوعي إلى تقييد قدرة الجنوب على المناورة الخارجية، وإغلاق أبواب الخيارات السياسية والاقتصادية المتنوعة، ما أفضى إلى عزلة نسبية عن المحيطين العربي والإسلامي، وأضعف من مكانته الإقليمية والدولية.
اليوم، وبعد أكثر من ثلاثة عقود على الوحدة، يبدو أن ثمة مسارا جديدا يوشك أن يعيد إنتاج السيناريو نفسه، ولكن بأدوات مختلفة. فالمجلس الانتقالي الجنوبي يعلن بوضوح استعداده لإقامة علاقات تطبيع مع الكيان الإسرائيلي، في خطوة غير مسبوقة في السياق اليمني، وتأتي في لحظة إقليمية بالغة الحساسية، وفي وقت لا تزال فيه قطاعات واسعة من الرأي العام العربي والإسلامي تنظر إلى التطبيع بوصفه انحرافا عن الإجماع التاريخي حول مركزية القضية الفلسطينية.
هذا التموضع ليس تفصيلا عابرا، بل يحمل دلالات سياسية عميقة تتصل بمحاولات إعادة رسم خريطة الاصطفافات في الجنوب، وربطها بمحاور إقليمية ودولية تسعى إلى توظيف موقع الجنوب الجغرافي في البحر العربي وباب المندب ضمن حساباتها الاستراتيجية.
التلويح بالتطبيع في ظل غياب كيان سياسي جنوبي معترف به، ومن دون تفويض شعبي واضح، لا يمكن قراءته بوصفه سياسة خارجية سيادية، بل هو أقرب إلى تموضع سياسي يلتف على الإرادة الشعبية ويشكل ارتدادا جريئا عن أهداف ثورة أكتوبر التي قامت على مبدأ الاستقلالية الوطنية ورفض الاصطفافات الحادة. فاختيار هذا النوع من الانحياز، سواء كان أيديولوجيا في الأمس أو سياسيا اليوم، يمثل في جوهره تجاوزا لمزاج المجتمع في المحافظات الجنوبية وتطلعاته، ويفتح الباب أمام انقسامات داخلية حادة داخل البيئة الجنوبية التي لا تزال هويتها السياسية هشة ومركبة، الأمر الذي قد يعيد إنتاج استقطابات مناطقية وسياسية على نحو يشبه ما حدث في مرحلة المد الشيوعي.
كما أن كشف هذه التوجهات مبكرا يكتسب أهمية سياسية خاصة، إذ ينبغي التمييز بين ما يطرحه رئيس المجلس الانتقالي عيدروس الزبيدي أو المشروع الانفصالي الذي تدعمه الإمارات، وبين الموقف الرسمي للشرعية اليمنية المعترف بها دوليا. فإذا تأكد أن هذا المسار نحو التطبيع يمثل توجها خاصا بالمجلس وليس جزءا من سياسة الدولة، فإنه يعزز منطق القوى الرافضة لمشروع الانفصال، ويكشف أن هذا المشروع يسير في اتجاه يعيد تكرار مآسي الماضي، ويقفز على الإرادة الشعبية التي شكلت أساس الشرعية الوطنية في الجنوب منذ ثورة أكتوبر وحتى الوحدة. أما لو كان توجها رسميا للشرعية اليمنية، فإنه سيكون بمثابة رصاصة الرحمة عليها، ويدفع اليمنيين للبحث عن خيارات بديلة تمثلهم.
إن ما يجمع بين الانحياز الشيوعي في الأمس ومحاولات التطبيع في الحاضر هو الارتهان الخارجي على حساب بناء موقف وطني مستقل ومتوازن. ففي كلتا الحالتين، يتم تقديم التموضع الخارجي باعتباره خيارا استراتيجيا، بينما تثبت التجربة أن نتائجه الفعلية تكون زعزعة الاستقرار الداخلي وتآكل القدرة على المناورة في البيئة الإقليمية. إن العودة إلى مبدأ الحياد الإيجابي الذي رفعته ثورة أكتوبر لم تعد شعارا تاريخيا، بل ضرورة سياسية لأي مشروع يسعى لتثبيت أقدامه داخليا قبل الدخول في محاور خارجية مثيرة للانقسام. أما القفز إلى تحالفات ذات طابع أيديولوجي أو جيوسياسي حاد في لحظة إقليمية مشحونة، فإنه لا يؤدي إلا إلى تكرار أخطاء الماضي بكل ما حملته من كلفة باهظة على الجنوب نفسه قبل غيره.