مقالات
الجمهوريون المستجدون: جمهوريو الضرورة
حين نغوص في تحليل التيارات السياسية والاجتماعية في اليمن، نجد أنفسنا أمام مشهد مزدوج: من جهة، تاريخ طويل من الانتماءات الفكرية والسياسية المتناقضة، ومن جهة أخرى، حراك جديد فرضته ظروف استثنائية، لا سيما صعود جماعة الحوثي كقوة إمامية جديدة.
في هذا السياق، يبرز مفهوم الجمهوريين المستجدين، الذين يظهرون اليوم كأتباع للرؤية الجمهورية، بينما تظل جذور انتمائهم هشة، متذبذبة، مرتبطة بالضرورة أكثر من القناعة. هؤلاء لم يشاركوا في إنتاج الجمهورية، ولم يساهموا في صياغة قيمها، ولم يشاركوا في بناء مؤسساتها الثقافية والفكرية والاجتماعية، لكنهم اليوم يرفعون شعاراتها، يكررونها، وكأن مجرد رفعها كافٍ لتأكيد الانتماء، وكأن الجمهورية نفسها تُصاغ بمجرد الترديد الصوتي للشعارات.
التاريخ السياسي والاجتماعي في اليمن يكشف لنا أن التيار الإسلامي، ومعه بعض القوى القبلية، لم يكن يومًا سبتمبريًا حقيقيًا. قبل صعود الحوثي، كان هؤلاء ميالين للملكية في عمقهم، أو متأرجحين بين الولاءات التقليدية والمصالح السياسية، ولم يكن لديهم فهم حقيقي لدور الجمهورية كإطار قيمي ومؤسساتي. انتماؤهم كان غالبًا شكليًا، مؤقتًا، مرتبطًا بموازين القوى أكثر من كونه نابعًا من وعي أو قناعة. هنا يظهر الفرق بين سبتمبريي القناعة، الذين أنتجوا فكرًا وفنًا ومؤسسات، وبين جمهوريي الضرورة، الذين يظهرون على الساحة الآن نتيجة ضغط خارجي، لا رغبة حقيقية في الانتماء.
سأتحدث هنا عن التيار الإسلامي في اليمن وبعض القوى القبلية التي تصطنع الانتماء للثورة الجمهورية، وأعني بذلك كل من يرفع شعار سبتمبر كرَاية، دون أن يمتلك أدنى عُمق في فهم قيم الجمهورية، أو في الالتزام بروحها. لن أكتفي بتقديم إجابات جاهزة، بل سأطرح تساؤلات، لأن التساؤل نفسه هو ما يفتح أبواب الوعي، وهو الطريق الوحيد نحو فهم متين وشامل للواقع المعقّد الذي نعيش فيه.
الواقع اليوم ليس مجرد مواجهة سياسية أو صراع على السلطة، بل هو صراع فكري وثقافي واجتماعي، صراع بين من يحمل الروح الجمهورية في الداخل وبين من يختبئ خلف شعاراتها كقناعٍ مؤقت. حلف الضوضاء هذا، الذي يسيطر على التيار الإسلامي وبعض القوى القبلية، هو مجرد ضجيج فارغ، شعارات متكررة تتراكم دون أن تعكس أي مضمون حقيقي، تصنع وهم الانتماء ولا تثمر أي إنتاج فكري أو ثقافي أو اجتماعي.
السؤال الجوهري هنا: هل كان التيار الإسلامي والقوى القبلية يومًا سبتمبريين خُلّصًا؟ التاريخ يشير إلى أن الإجابة غالبًا "لا". قبل ظهور الحوثي، كان الانتماء للجمهورية هشًا، متذبذبًا، وغالبًا ما يميل هؤلاء إلى الولاءات التقليدية أو الملكية، إلى ولاءات تتجاوز القيم الجمهورية وتستند إلى مصالح شخصية أو محاولات للتموضع في المشهد السياسي. لم يكن لديهم التزام حقيقي بالقيم التي قامت عليها الثورة، ولم يكن لديهم فهم عميق لدور الجمهورية في صياغة الهوية الوطنية، بل كانت الولاءات غالبًا شكلية أو مؤقتة، مرتبطة بالمنافع والحسابات اللحظية، أكثر من ارتباطها بالمبادئ والفكر.
اليوم نواجه ظاهرة أصفها بالسبتمبريين المستجدين، وهم الذين لم يختبروا قيم الجمهورية تاريخيًا ولم ينتجوا لها إرثًا ثقافيًا أو فكريًا أو فنيًا. هذا الانتماء الجديد لم يأتِ عن اقتناع أو عن إدراك حقيقي، بل نتيجة جائحة إمامية جديدة فرضتها جماعة الحوثي، التي شدَّت الخناق على الجميع وأجبرت هؤلاء على الانكفاء تحت راية سبتمبر، خوفًا من فقدان مواقعهم أو التعرّض للاختطاف أو التهميش السياسي. هؤلاء جمهوريو الضرورة، الذين يرفعون شعارات الجمهورية ليس من أجل قِيمها، بل من أجل البقاء، ليس من أجل إنتاج فني أو ثقافي، بل من أجل النّجاة من خطر الإمامة المتجددة.
صعود الحوثي كجائحة إمامية جديدة أضاف طبقة من التعقيد. هذه القوّة لم تكتفِ بالسيطرة العسكرية، بل فرضت على المجتمع اليمني برمّته نوعًا من الامتثال القسري، أجبرت من لم يكن سبتمبريًا بالجوهر على التظاهر بالانتماء، ومنعت الملكيين السابقين من ممارسة ولائهم القديم بحرية. هنا وُلد السبتمبريون المستجدون، جمهوريو الضرورة الذين يحملون شعارات الجمهورية ليس من أجل إنتاجها أو حمايتها، بل من أجل النّجاة والتموضع ضمن الواقع الجديد. الانتماء لديهم شكلي، مضطرب، مرتبط بالخوف من الإقصاء أو العِقاب، وليس مرتبطًا برؤية فلسفية أو ثقافية أو سياسية.
لكن لماذا هؤلاء لم يقدّموا أي إنتاج حقيقي يعكس الجمهورية كقيمة حيّة، على عكس الجيل السابق من السبتمبريين الذين أنتجوا إرثًا ثقافيًا وفنيًا وفكريًا لا يزال يشكل جزءًا من الوعي الوطني؟ أيوب طارش ورفاقه صنعوا أغانيَ خالدة، مرتبطة بالهوية والثورة، صنعت ذاكرة فنية للجمهورية، ورسمت حدودها الفكرية والثقافية والاجتماعية. النّخب السبتمبرية في الستينات والسبعينات أنشأت نقابات وكيانات مدنية، أنتجت دراسات تاريخية واجتماعية وسياسية، وجعلت الجمهورية تجربة متجددة، حيّة، ملموسة.
بالمقابل، جمهوريو الضرورة اليوم يكررون الشعارات بلا إنتاج، بلا فكر، بلا إبداع، بلا مؤسسات، وبلا أي أثر يمكن أن يعيد تشكيل وعي المجتمع. هذه الظاهرة تعكس هشاشة الانتماء الجديد.
أتساءل عن مستقبل الجمهورية: هل سيبقى هؤلاء -جمهوريو الضرورة- على شعاراتهم بعد زوال التهديد الحوثي، أم أنهم سيعودون إلى ولاءات قديمة، إلى الملكية أو الولاءات التقليدية، كما فعل بعضهم منذ انقلابه على السلال في فجر الجمهورية؟
هل الجمهورية بالنسبة لهم مجرد قشرة خارجية يمكن خلعها وارتداؤها حسب الظروف، أم أنها تجربة تتطلب إنتاجًا مستمرًا، وإبداعًا دائمًا، والتزامًا فكريًا وأخلاقيًا؟
الجمهورية الحقيقية ليست مجرد كلمة تُردد، ولا مجرد شعار يُرفع في التظاهرات؛ هي إنتاج مستمر، تتشكّل من فكر، وفن، وأدب، وكيانات مدنية، ومؤسسات، ورؤى سياسية واضحة، عمل مستمر في التاريخ والمجتمع، وتجربة تُختبر كل يوم، لكل جيل. الجمهوري الحقيقي هو من يُساهم في بناء هذه التجربة، ويُضيف إليها، ويحمي جوهرها، ويجعلها صالحة للتجدد المستمر.
أما جمهوريو الضرورة فهم حاضرون جسديًا فقط، غائبون في العُمق، يكررون الصوت بلا معنى، يظهرون التزامًا شكليًا لا ينبع من قناعة، ويعيشون الجمهورية كظل، لا كواقع.
اليوم اليمن يختبر هذه الأزمة على مستوى الجماعات والسياسات والمجتمع المدني والفكر، وهذا الاختبار سيحدد مصير الجمهورية كقيمة ومشروع. إذا ظل جمهوريو الضرورة هم الأكثر حضورًا، فإن الجمهورية ستبقى مجرد صدًى، مجرد شعارات، مجرد ضوضاء، دون نتاج حقيقي.
أما إذا تمكّن الجيل الجديد من استيعاب درس التاريخ، وفِهم الفرق بين الانتماء الواقعي والقسري، بين القيم الحقيقية والشعارات الفارغة، فإن الجمهورية ستظل تجربة حيّة، إنتاجًا مستمرًا، وإرثًا لا يمكن محوه أو تقويضه مهما كانت الظروف.
الجمهورية ليست شعارًا، ولا مجرد ذكرى أو كلمة على الورق، هي مساحة للوعي، وإنتاج متجدد، وإبداع مستمر، وممارسة حيّة لكل يوم، لكل جيل، لكل جماعة، تتطلب صقل الفكر والفن والعمل المدني، وتحتاج إلى جمهور حقيقي، لا جمهور الضرورة، لتظل تجربة صالحة للحياة، لا مجرد صدى للأزمات والمؤثرات الخارجية.