تقارير
بين الفقر والاضطرابات النفسية.. كيف تركت الحرب أثرها على اليمنيين؟
كان والد "إبراهيم" يعيش فرحة لا توصف بانتظار تخرج نجله من المعهد الصحي الحكومي بصنعاء وحصوله على شهادة دبلوم عالٍ في الصيدلة، على أمل أن يبدأ حياة مهنية مستقرة، يساعد الأسرة المكونة من ثمانية أفراد في توفير متطلبات الحياة اليومية.
لكن، بعد عام واحد فقط من تخرجه وبدءه العمل، تغير كل شيء. أصيب إبراهيم باضطرابات نفسية، يقول والده: "في البداية ترك عمله في الصيدلية بحجة قلة الراتب، ثم زادت ولعه بالقات وتناول الشمة..".
يضيف والده في حديثه لقناة "بلقيس"، "حاولت مساعدته في الحصول على فرصة عمل أخرى، لكنه لم يستمر إلا بضعة أسابيع قبل أن يتركها تمامًا".
ويتابع، تدهورت حالته سريعًا، وأصبح يتصرف بطريقة غير طبيعية، يذهب للعمل ويعود ثم يغيب لفترات طويلة، حتى توقف عن الخروج من المنزل نهائيًا.
"تحول من نعمة إلى نقمة"، يضيف والده، "بات يعاني من اضطرابات نفسية حادة، وتهديداته اليومية للبيت لا تهدأ. يرفض العلاج، ولا يستحم، وكل ما بحوزته هو سكين وجنبية، لم أعد أستطيع مغادرة المنزل خوفًا على والدته وإخوانه وأخواته".
والد إبراهيم، الذي يعمل ضابطًا في إدارة الأمن، وجد نفسه بلا مرتب بسبب الحرب المستمرة منذ أكثر من عشر سنوات، شأنه شأن آلاف اليمنيين الذين فقدوا مصدر دخلهم، ومع ذلك، لم يدخر جهدًا لإكمال تعليم إبراهيم وثلاثة من إخوته في تخصصات مختلفة.
يقول وهو يتنهد من القهر والألم على مصير نجله: "كنت أمشي على قدميّ نحو ثلاثة كيلومترات يوميًا ذهابًا وإيابًا للعمل وتوفير قيمة المواصلات لأجل تعليم أولادي"، ولكن شاء الله أن يكدر المرض فرحتنا.
ومع تدهور حالة إبراهيم النفسية، أصبحت معاناة الأسرة اليومية مزدوجة، بين فقدان مصدر دخلهم وظلال المرض النفسي الذي يخيم على حياتهم، لتتحول الفرحة المنتظرة لتخرج الابن إلى مأساة حقيقية للأسرة كلها.
- رُبع سكان اليمن مرضى نفسيين
"إبراهيم يحيى" هو واحد من سبعة ملايين شخص في اليمن، يحتاجون إلى رعاية الصحة النفسية، وفق تقرير منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة 2024.
وذكرت منظمة الصحة العالمية، في تقريرها، أن عدد الأشخاص الذين يعانون من الصدمات النفسية، والإجهاد الناجم عن النزاع المستمر، يقارب ربع سكان اليمن، في الوقت الذي يحصل فيه 120 ألف شخص فقط على الرعاية النفسية.
وأوضحت المنظمة، أن العديد من المناطق في اليمن تعاني من نقص حاد في خدمات الصحة النفسية، والدعم النفسي الاجتماعي؛ وذلك بسبب قلة عدد الأخصائيين المدربين والمراكز العلاجية.
وأشارت إلى أنه في الوقت الذي يرفض فيه المجتمع المرضى النفسيين، فإن خوف هؤلاء المرضى من نظرة المجتمع وأحكامه يمنع الكثيرين منهم من طلب المساعدة؛ بسبب الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالمرض النفسي.
وأكدت أن الصراعات المستمرة على مدى عقد من الزمن، أدت إلى ارتفاع مستويات الفقر بشكل كبير، حيث يعيش ما يقرب من 80% من السكان تحت خط الفقر.
- الواقع النفسي
ومع حلول اليوم العالمي للصحة النفسية في 10 أكتوبر، تتجدد الدعوة للتركيز على الواقع النفسي لليمنيين، الذين يعيشونه منذ سنوات تحت وطأة حرب مستمرة أودت بحياة أكثر من 377 ألف شخص، بشكل مباشر أو غير مباشر، وفق تقارير الأمم المتحدة.
الصدمات اليومية التي يتعرض لها السكان تشمل انقطاع المرتبات، وانعدام الأمن الغذائي وفرص العمل، وفقدان المساكن، الاعتقالات التعسفية، ونقص الخدمات الأساسية، ما جعل الكثيرين يعيشون في حالة مستمرة من الضغط النفسي والاكتئاب.
تُظهر البيانات المتاحة أن اليمن يعاني أزمة حقيقية في قطاع الصحة النفسية، حيث يبلغ عدد الأطباء النفسيين 59 طبيبًا فقط، أي بمعدل طبيب واحد لكل نصف مليون نسمة، فيما يصل إجمالي المتخصصين الصحيين في هذا المجال إلى حوالي 300 فقط، مع وجود 990 سريرًا مخصصًا للصحة النفسية موزعة على سبعة مستشفيات عامة وخاصة فقط.
هذه المعطيات تعكس حجم النقص الحاد في الرعاية النفسية، ما يزيد من عمق معاناة اليمنيين الذين يواجهون اضطرابات نفسية غير مرئية لكنها يومية وواسعة الانتشار.
يأتي هذا في الوقت الذي تتفاقم فيه الأزمة بفعل الفقر المستشري وانهيار الاقتصاد، إذ يعيش أكثر من 80% من السكان تحت خط الفقر، ويعانون من تداعيات نقص الغذاء والدواء والخدمات الصحية.
بالإضافة إلى ذلك، تفرض الوصمة الاجتماعية حول الأمراض النفسية قيودًا على الوصول إلى العلاج والدعم النفسي، ما يجعل اليمنيين أسرى حلقة مفرغة من الفقر والاضطرابات النفسية.
- الآثار النفسية للحرب
تؤكد الأخصائية النفسية، وعضو المجلس الاستشاري الأسري اليمني، فاطمة الحرازي، أن استمرار الحرب في اليمن خلف آثارًا نفسية كبيرة على السكان في مختلف المحافظات، وخصوصًا تلك المحافظات التي تضررت من الحرب مثل محافظة مأرب وتعز.
وأوضحت الحرازي في تصريح لقناة "بلقيس"، أن عدة اضطرابات نفسية شائعة باتت تتصدر لدى المتضررين، بينها الاكتئاب بأنواعه، واضطراب ثنائي القطب، والفصام، والقلق، والوساوس القهرية، والبارانويا (الشك)، واضطرابات الهلع.
وأضافت الأخصائية النفسية، كما تعاني بعض الفئات من مشاكل وانحرافات سلوكية واضطرابات في الشخصية، مع تسجيل حالات انتحار بين المصابين، بما في ذلك بين المراهقين وصغار السن.
وأشارت إلى أن مستوى التدخلات والعلاج النفسي ضئيل مقارنة بحجم المشكلة، وقالت: "على سبيل المثال في مأرب، توجد عيادات متنقلة تقدم خدماتها بشكل متقطع عبر بعض المنظمات، إضافة إلى عيادة ثابتة للعلاج النفسي في أحد المستشفيات، يشرف عليها طبيب زائر لعدة أيام في الشهر".
وأوضحت، أن عدد المستفيدين من العيادات النفسية، على سبيل المثال، في محافظة مأرب خلال عام 2025 بلغ نحو 30 ألف شخص، وهو رقم يعكس حجم الحاجة الملحة إلى رعاية نفسية شاملة ودائمة للمتضررين من آثار الحرب.
وأكدت في هذا الصدد، وجود حاجة ماسة لإنشاء مصحات نفسية متخصصة، تستقبل الحالات وتوفر متابعة سريرية منتظمة، بما يواكب حجم المعاناة النفسية الكبيرة التي يعانيها السكان نتيجة الحرب.
- الصحة النفسية أولوية
بدورها، أكدت الباحثة النفسية في جامعة صنعاء أسماء الأشول، أن "الوضع الإنساني المتدهور في اليمن منذ عشر سنوات يجعل من الاهتمام بالصحة النفسية أولوية لا تقل أهمية عن الاهتمام بالجوانب الجسدية والمعيشية".
وأوضحت في حديث لقناة "بلقيس"، أن سنوات الحرب، وما رافقها من نزوح وفقر وفقدان للأمان، تسببت في ارتفاع معدلات الاضطرابات النفسية بين مختلف فئات المجتمع، أبرزها الاكتئاب، القلق، اضطرابات ما بعد الصدمة، والاضطرابات السلوكية لدى الأطفال.
وأكدت الأشول، أن هذه الأزمات تركت آثارًا واضحة على الأداء اليومي للأفراد، فأضعفت قدرتهم على العمل والتحصيل الدراسي، وزادت من مشاعر العزلة واليأس والتفكك الأسري، مؤكدة أن الأضرار النفسية الناجمة عن الحرب لا تقل خطورة عن الأضرار المادية، بل تمتد آثارها لسنوات طويلة ما لم يتم التدخل المبكر لعلاجها.
وشددت على ضرورة تبني برامج وطنية ومجتمعية متكاملة تُعنى بالدعم النفسي والاجتماعي، من خلال دمج خدمات الصحة النفسية ضمن الرعاية الصحية الأولية، وتدريب وتأهيل الكوادر النفسية والاجتماعية، وإطلاق حملات توعية لتقليل الوصمة المرتبطة بالاضطرابات النفسية، وتنفيذ برامج تستهدف النساء والأطفال لتعزيز التكيف والمرونة النفسية، وتعزيز التعاون بين المؤسسات الحكومية والمنظمات الدولية في هذا المجال.
ودعت في هذا السياق، المجتمع بمختلف فئاته إلى دعم الجهود الرامية لنشر الوعي بالصحة النفسية، مؤكدة أن "الصحة النفسية ليست رفاهية، بل حق إنساني أساسي، والاهتمام بها نبني مجتمعًا متوازنًا ومستقبلًا أكثر إنسانية لليمن وأجياله القادمة". وفق تعبيرها.