مقالات

يهودية وعادها تنخط .. (سيرة ذاتية 19)

17/10/2025, 16:33:59

بقيت في المستشفى الجمهوري مدة أسبوع ولم أعرف ما هو مرضي بالضبط، وعندما ترجم لي المترجم كلام الطبيب الروسي وقوله إنني أعاني من سوء التغذية، خطر في بالي أنه قرر رقودي في المستشفى لكي أتغذى، وأنني سأبقى هناك لفترة. لكن الذي حدث هو أنهم بعد ثلاثة أيام أبلغوني بالخروج، وخرجت إلى الشارع قبل الغداء، وأنا مفلس، وبي جوع، وكنت زعلاناً أقول بيني ونفسي:

أيش بايضرهم لو كانوا خلوني أتغدى!!

وعند مروري من أمام وزارة التربية والتعليم، قلت أدخل أشوف خبر المنح. وكنت قد سمعت أن ألمانيا قدمت للوزارة منحاً في مجال اللاسلكي.
أيامها كانت كلمة "لاسلكي" تثير فينا حنيناً إلى المجهول، وكان هناك من يقول إن علم اللاسلكي هو أحدث وأقوى العلوم، وهو علم المستقبل، وإن من يتعلم اللاسلكي تنفتح أمامه أبواب الرزق.
وبعد دخولي الوزارة، وجدت طلاباً بعمري، وحين سألتهم عن خبر المنح أكدوا لي الخبر، وفي تلك الأيام، وقد انتهت الحرب في اليمن، وتم الصلح بين الجمهوريين والملكيين، كانت المنح تتدفق من كل الدول، وكان الطالب الذي أكمل الابتدائية يشعر أنه أكمل الثانوية، وأن من حقه الحصول على منحة والخروج من اليمن.
ومن بين الطلبة الذين قابلتهم يومها، طالب رائع من رداع، وكان قد أنهى المرحلة الإعدادية وسجل في البعثة وتم قبوله، وهو الذي شجعني على التسجيل، وظل يركض معي في أروقة الوزارة، لكأن مستقبلي يهمه أو كأنه يريد مني مرافقته في رحلته إلى ألمانيا.

وبعد أن نصحني بتقديم طلب التحاق ببعثة اللاسلكي، أعطاني ورقة وقلم، وكتبت الطلب وقدمته، وحين سألني الموظف الذي يقوم بالتسجيل عن مستواي الدراسي، قلت له:

ثاني إعدادي.
قال لي إن المطلوب هو شهادة ثالث إعدادي، لكنه سوف يساعدني ويسجلني في كشف البعثة ويخالف النظام من أجلي.
وعندما طلب مني الشهادة، ارتبكت، والسبب أنني خرجت من عدن من دون شهادة، لأني كنت قد كرهت الدراسة وتحررت منها، ولم يعد عندي تلك الرغبة للعودة للمدارس كي أحبس نفسي بين أربعة جدران.
لكن الموظف، وقد عرف أنني تركت شهادتي في عدن، لم يشأ أن يحبطني، أو ربما أراد مني رشوة، فقد سمعت أنه يرتشي، ويستطيع بقوة الرشوة أن يخالف النظام ويسفر أي طالب إلى أي دولة.

وبعد أن سجل اسمي في الكشف، طلب مني أن أسرع في إحضار الشهادة من عدن، وقال لي: "أبسر، قد سجلت اسمك، والباقي عليك".
وبعد أن رأيته يسجل اسمي في الكشف، فرحت فرحاً عظيماً، وتبخر شعوري بالجوع.
ومع الطالب الرداعي خرجت من الوزارة وسرنا معاً كما لو كنا صديقين.
وبعد خروجنا، عزمني على غداء في مطعم النجاة، وعند دخولنا المطعم، تفاجأ حين أبصر العمال في المطعم يرحبون بي، وقال لي:

من أين تعرفهم؟

قلت له: كنت أشتغل في المطعم.

واستغرب الطالب الرداعي عندما قلت له إنني اشتغلت في نفس المطعم، وقال لي إن أبناء قبيلته لو عرفوا أنه اشتغل في مطعم أو في مقهى سوف يلعنونه ويحتقرونه ويقولون عنه "قليل أصل"، ولن يسمحوا له بدخول بيوتهم وتزويجه بناتهم.
وكان كلامه قد أخافني، وخفت أن يتخذ موقفاً مني ويعتبرني "قليل أصل"، لكنه بعد أن أخافني بكلامه عن موقف أبناء قبيلته من العمل في المطاعم والمقاهي، راح يمتدح أبناء تعز الذين يشتغلون في كافة الأعمال وفي مختلف المهن دون تمييز ودون تعالٍ، وقال إنه عرفهم في عدن.

وبمجرد أن ذكر عدن، انفجر بيننا ينبوع من الذكريات، ورحنا نأكل ونسترجع ذكرياتنا فيها. وكانت تلك أول مرة منذ وصولي العاصمة صنعاء، أجد من يعزمني على غداء، وعلى لحمة.

ومن "مطعم النجاة" ذهبنا إلى "منتزه التحرير"، وبقينا هناك نشرب الشاي ونواصل الحديث عن ذكرياتنا في عدن، ويومها اكتشفت أن بيني وبين الطالب الرداعي قاسماً مشتركاً، وهو عشقنا للسينما.

وبعد أن قال لي إنه سوف يعزمني على سينما، تذكرت ما حدث معي في تلك الليلة التي أطلقني فيها مدير قسم شرطة "باب البلقة" من الحبس، وسرت في جسدي قشعريرة رعب، وقشعريرة برد.
وحتى أدخل السينما وأنا آمن، اقترحت عليه أن يأتي معي لكي آخذ مفتاح البيت من اليهودية نعومي.

وفي الطريق، وأنا أحدثه عن اليهودية نعومي التي نضع المفتاح عندها، استغرب الطالب الرداعي من كلامي، وقال لي:

يهودية في صنعاء!! كيف هذا؟! يهود صنعاء خرجوا وسافروا، وهذه اليهودية من هو الذي سمح لها تجلس في صنعاء؟!

وكان زعلاناً من الدولة لأنها سمحت لها بالبقاء ولم تطردها، وزعل مني عندما عرف أنني ساكن في حي اليهود، وفي بيت من بيوتهم، وأن نعومي اليهودية تخدمني وتغسل ملابسي، وقال لي:

"حرام يا عبد الكريم، حرام".

واقترح علي أن أخرج من البيت وأبحث عن سكن آخر.
وحين قلت إن ضباطاً من قريتنا استأجروا البيت، وأنني أسكن بالمجان، قال لي:

تعال اسكن عندي بدل ما تتحمل ذنوب.

وعندما وصلنا، وناديت نعومي لتعطيني المفتاح، خرجت وهي بكامل زينتها، وبكامل فرحتها لخروجي من المستشفى.
وبعد أن أبصرها الرداعي، بدا مذهولاً من جمالها، وراح يراجع نفسه ويتراجع عن كلامه، وقال لي ونحن في طريق عودتنا إلى ميدان التحرير:

قلت لك تجي تسكن عندي، لكن بعدما أبصرتها، أجي أنا أسكن عندك.

وفي السينما التفت ناحيتي وقال لي هامساً:

والله إن نعومي اليهودية أجمل من نادية لطفي.

وبعد خروجنا من السينما، جاء معي ونام عندي، وفي الصباح حين حضرت نعومي وأحضرت تنكة الماء ودخلت المطبخ، دخل بعدها وأراد أن يقبلها لكنها صدته وصرخت بكل صوتها.
وكنت أنا ما زلت ممدداً في غرفتي بين اليقظة والنوم، وحين سمعت صراخها خرجت، وكان الرداعي منزعجاً منها ومن ممانعتها، وقال لي وهو زعلان:

يهودية وعادها تنخط!!

مقالات

الدلع في ذروة الإبداع: أحمد بن أحمد قاسم وميلاد الحداثة الموسيقية اليمنية

في ذروة الإبداع يكون اللعب. هناك، في أقصى الإجادة للحن والعزف والغناء، ستجد الفنان وكأنه يلعب متخففًا من كل جدية. ما قرأته في فلسفة نيتشه، شاهدته في أداء الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم. ملامحه وحركاته. عزفه ونغماته.

مقالات

عودة العليمي إلى عدن: بين زيارة العمل الخاطفة ومشروع تأسيس دولة النظام والقانون

تشكل عودة فخامة الرئيس الدكتور رشاد محمد العليمي، رئيس مجلس القيادة الرئاسي، إلى العاصمة المؤقتة عدن محطةً للتحليل والقراءة المتعمقة، تتجاوز السؤال السطحي حول كونها مجرد زيارة روتينية

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.