مقالات

يا حسن.. الرفاق يقولون إن أحلامك لم تضِع سدى!

28/09/2024, 15:44:07

لتغشاك الرحمة.. 

أخي الحبيب.. الصحفي الكبير.. حسن عبدالوارث 

لعلها مأساة المثقف الذي إن نجا من فخ لاحقته الأفخاخ طوال العمر، فحين فرّ عبدالحميد الكاتب بمعية مروان بن محمد -آخر خلفاء بني أمية- قال مروان: "اُنج بنفسك يا عبدالحميد فإنهم إن قتلوني خسرني أهلي وحدهم، وإن قتلوك خسرك العرب جميعاً"، وقد كان للقتلة ملاحقة الرجل حتى تم الظفر بجسده، وهو متخفياً في منزل ابن المقفع، الأخير لقي من التنكيل ما يندى له جبين التاريخ. 

أقول ذلك لأنني أعرف جيداً أنك رحلت بسبب الإهمال ونكران الجميل وقلة الحيلة؛ فخسرتك البلاد؛ لأن مزاج أيامها المتقلب تغيّر، ومقاس حلمها لم تعد تستطيع الوصول إليه. 

في الساعة الثامنة من مساء يوم الأربعاء - 25 سبتمبر 2024 - مات الصحفي الكبير حسن عبدالوارث، ويعرف الكثيرون أن هذا التاريخ له رمزية كبيرة لدى اليمنيين؛ لأنه يمثل عشية ليلة الثورة، التي قامت في السادس والعشرين من سبتمبر 196..

كنت أمضي في شارع الزبيري حين ارتفع رنين هاتفي؛ قال الصديق فيصل عبدالجليل -وهو يجهش بالبكاء-: "حسن مات".. وبدون الاستماع إلى بقية التفاصيل قلت لعله ذهب إلى مكان ما ليستريح..

توغل الليل فرحت أقاومه بذكرياتي القديمة، مع صبر صاحبي الجميل على عوادي الأيام، وخساراتها التي لا تنتهي، تذكرت عشية ميلاد الثورة فقلت في نفسي وأنا أسير: 

"وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر".

لم تقف المفارقة هنا، وإنما ثمة مفارقة أخرى، فالصحفي حسن عبدالوارث وُلد في عام الثورة اليمنية نفسه، ما يعني أن جذوة حياته المتقدة بالأمل والحب والتفاني والإبداع توارت بعد 62 عاماً، توارى ليقول لنا إنه أختار هذا اليوم لسبب واحد، هو أن حياة الكاتب لا تزول بدفن جسده، وإنما بدفن قضيته وحلمه ومبادئه المرتبطة بحياة الناس وطموحاتهم وتطلعاتهم..

كان يريد أن يقول ذلك بأي وسيلة، فاختار هذه الذروة ليعلن موقفه. 

توقف القلب الذي أنار طوال هذه العقود في الليلة التي طالما رأى شعلتها تتماوج في ميدان التحرير، وفي اللحظة التي سكت فيها القلب النابض بحب الثورة توقفت الأقدام عن السير إلى ميادين التحرير في الكثير من المدن اليمنية، وعلى كل حال فإن القلوب تهفو ولم تتوقف. 

لم تكن لحظة موت، وإنما لحظة احتجاج عظيمة على واقع مرير؛ لحظة إدانة كبيرة، تقول الكثير من الغضب والشوق..

توقف القلب الذي لم يدخر نبضة واحدة إلا وسفحها على باب الحرية، وهو في كامل الاتزان، كما لو أنه يلقي قصيدة شعر في قاعة الزعيم جمال عبدالناصر.. قصيدة شعر يتحدث فيها عن أقدام اليمنيين التي تقبل الصخور العالية دائماً، قصيدة تمجد السلام والمحبة والأمل، قصيدة تهشّ بأصابعها الفقر والجهل والمرض الذي يحاول الزحف إلى رئتيه، قصيدة تشبه ذلك النص الذي كتبه مايكو فيسكي: مات الشاعر/ سقط عبداً للشرف/ الرصاص في صدره يدعو للانتقام / والرأس الشامخ انحنى في النهاية/ والآن ماذا أنتم فاعلون يا من حاصرتم موهبته الحرة الشجاعة". 

تعرفت على حسن، مطلع التسعينات، عبر مهرجانات اتحاد الأُدباء والكُتاب اليمنيين الثقافية، وخاصة في المؤتمرات المصاحبة لجدول الانتخابات، حيث إنه -في العادة- كان يرأس تحرير النشرة الصادرة عن الاتحاد.

وأتذكر أنه كان ينشر على صفحات تلك النشرات شعراً من النوع الذي يبعث الهدوء والمتعة، شعراً يقوم على الاهتمام بإيقاع الشارع، وهموم اليومي والمعاش..

وأتذكر أنني حين اكتشفت هذا الصوت النقي رحت أتتبع خطواته؛ فوجدت أن لديه عمودا أسبوعيا في صحيفة "صوت العمال"، يُنشر تحت عنوان "نصف عمود".

وفي أكثر من متابعة، وجدته ينقل ذلك العمود إلى أكثر من مكان، ما عدا صحيفة "الثقافية" التي كتب فيها عمودا تحت عنوان: "مزهر". 

تعرفت على حسن بشكل أكثر حين تسلم رئاسة تحرير صحيفة "الوحدة"، عملت معه محرراً للصفحة الثقافية، التي كان يحررها - من قبل - الشاعر الكبير محمد حسين هيثم، وكنت يومها أعرف نوايا حسن البريئة؛ فقد كانت لديه ثقة كبيرة بالنفس، وشجاعة لم ألمسها عند آخرين ممن عملت معهم، خاصة وأنني رأيت أن عملي معه من باب إعطاء فرص جديدة للشباب، فلم يكن من النوع الذي تبهره المناصب، أو تدهشه الامتيازات والحشود، والمعاملات الروتينية.

وجدته كما عهدته دائماً مثقفا وجوديا أصيلا، يؤمن بتحقيق الذات اليمنية المتجذرة في تاريخ طويل من الصياغة والمحاولة المستمرة، مثلما يعي التاريخ العربي والأممي لذلك فقد كانت رؤيته للإنسان، ومعاناته ثاقبة؛ لأنه أمين على هذه الهوية الإنسانية الشاملة التي يرى أنها لا تنبثق إلا من المثابرة والإصرار والثورة، ولكن يا -للأسف الشديد- فقد كان "صاحبي حسن" - على حد تعبير الشاعر الشهير أحمد مطر- كلما حاول الخلاص مع عملية وعي جديدة تتناسب مع قراءته ومراجعاته الفكرية، لاحقته قيود الماضي المتحالفة مع تذبذب الحاضر، وكلما أطل برأسه من موقع الناقد الصحفي المسؤول عن إعادة قراءة الواقع خضع لأشكال غير مرئية من الإقصاء والاستبعاد. 

ودار الزمن الذي لا يأتي "بالأحسن"، فقرأت في وسائل التواصل الاجتماعي أن حسناً يُعرض مكتبته الوطنية المنزلية للبيع، وقد كنت أعرف مدى تشاؤمه من المنزل الذي لا يحتوي على مكتبة، ففي إحدى مقالاته قال إنه ذات يوم زار منزل أحد أصدقائه ووجد فيه كل ما ينمِّي الذوق والجمال، ولكنه خالياً من الكُتب و"الرفوف"، وعندما واجه صاحبه بذلك العيب الذي يراه كبيراً، لم يرقْ لصديقه الأمر؛ فأطلق ضحكة عالية، مقللاً من فعل القراءة، وأهميتها في مثل هذا الزمن، ترك حسن صديقه وهو متمسك برأيه، وقد كان في غاية الذهول والدهشة والتشاؤم. 

بعد ذلك العرض، الذي باح به حسن لقرائه، ألتقيته صدفة في أحد مقاهي شارع "هايل"، وكان يحمل في عينيه كل ملامح الانكسار والغضب، رأيته على حافة الباب كما لو أنه يتخبّط في صحراء كبيرة رملها يتلاطم، وهو يقاومه بالصبر والجوع والعطش.. لم أرد أن أمضي دون أن أعطي له ولنفسي مساحة من البوح، قلت له وأنا أعرف الإجابة مسبقاً - لأنني مررت بالتجربة نفسها-: "لما عرضت مكتبتك للبيع؟".

قال: "لنفس السبب الذي جعلك تبيع مكتبتك بصمت!!".

ثم أردف، وهو يحدّق بعينين يحتقن فيهما الدمع: "والآن ما هو الإحساس الذي ينتابك؟".

قلت له: "أشعر كما لو أنني لا ألبس شيئا".

وبدون أن يضحك، قال لي: "كم كتاباً كان في مكتبتك؟".

قلت له حوالي: "أربعة آلاف".

قال: "مكتبتي تحتوي على أكثر من 6 آلاف كتاب".

كنت كلما تذكرت ذلك الحديث الذي دار بيننا يتناهى إليّ نصه الشعري الذي تلقفناه بالقراءة والإشادة (ضاعت سدى)، وأورده هنا لجماليّته: 

في الليل، والحلم المطارد 

في دمي 

يحصي شظايا أنجمي 

يأتي الرفاق 

يأتون من وجعي المعتق.. 

من خلاف الاتفاق 

يتوسدون قصيدتي.. 

وأمد تحت أنينهم جلدي 

وفوق شخيرهم أرقي ووجدي 

كي ينامون هانئين 

بلا نفاق. 

..... 

في الفجر 

يدهمني الرفاق 

كما الندى 

في العصر 

يحويني الرفاق 

كمنتدى 

في الليل.. 

أحلم بالرفاق 

مدى يراوده الشذى 

لكن أحلامي بهم 

ضاعت سدى" 

وهنا لا بُد أن أقول لك: "يا حسن، الرفاق يقولون إن أحلامك لم تضع سدى، وأن حلمك المطارد يأوي في قلوبهم، وأن شظاياك المعتقة يلملمونها شذرة.. شذرة". 

إن أجمل عناوين الوفاء لمن تغادرنا أجسادهم هو أن نظل أوفياء لما تركوه من إرث أخلاقي وجمالي وفكري. 

يستحق حسن عبدالوارث، الذي أدمن الكتابة منذ ما يربو عن أربعين عاماً، أن تُجمع كتاباته وأشعاره ومُلحه وقصصه القصيرة، وقراءاته الإبداعية؛ لتُطبع في سلسلة من الإصدارات.

مقالات

فيصل علوي.. منظومة فرحٍ لا تنضب

فيصل علوي فنان غير قابل لأن تُمسِك به، وتختصره بمقالة. ست مرات أضعه في طاولة الكتابة، ثم أتراجع وأكتب عن فنان آخر مؤجلاً فيصل إلى لحظة أخرى، أستجمع نفسي إلى درجة أكون قادرا فيها على الإمساك به.

مقالات

خدعة نفسية.. الحوثي والنبي

إلى ما قبل عشر سنوات، كان مقام النبي محمد-عليه الصلاة والسلام- محاطا بعناية شديدة؛ لإبقائه بعيدا عن التجاذبات السياسية، حتى في أكثر اللحظات قتامة في التاريخ الإسلامي، هذا الحرص كان يهدف إلى الحفاظ على هالته الدِّينية والتقديسية من التشويه أو الاستغلال.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.