مقالات

مات فؤاد الحميري وقصيدته ستُكمل المعركة

28/06/2025, 11:41:19

مات فؤاد الحميري، وترك لنا بناته القصائد، يتيماتٍ مثلنا، يُحاربن كما نحارب، ويُكملن ما لم نستطع إكماله. رحل الصوت الذي كان يُشبه صوت الثورة حين كانت صادقة، رحل من كان كلما أنشد بيتًا من شعر، أنبت في صدورنا جمرة لا تخبو، جمرة تهتف للكرامة، وتحرض على التمرد، وتدعو إلى بناء وطنٍ لا يُدار بالبندقية، ولا يُحكم بالعائلة، ولا يُفرَّق فيه الناس بين جبلٍ وساحل، بين شمالٍ وجنوب.

رحل صوت الشعب والثورة، مات الذي كان يُشبه الميدان أكثر من أي شاعر، وكان أكثر صدقًا من كل الخطب، وأكثر عنفوانًا من المدافع. لم يكن يكتب شعرًا، كان يكتب صوتنا، ويعيد ترتيب الحلم في صدورنا، حين كانت النكبات كثيرة، وكان الهوان عامًا. مات من كان يقف في الساحات كأن القصيدة عَلَم، وكأن البيت الشعري شارة نصر، وكأن صوته المبحوح جرس إنذار يوقظ ضمير البلاد. لم يكن شاعرًا فحسب، بل كان ذاكرة فبراير، نبضها، نبراسها، وسيفها اللفظي المُشهر.

كنا هناك يومًا، منصتين، مشدوهين، نلهث خلف كلماته، نردّدها كما نردد الأناشيد. كان فؤاد يعتلي المنبر، ليكتب على الهواء مباشرة سيرة الوطن الجريح. كان يكتب لنا خريطة الطريق، بلهيب المعنى، وبوصلة اللغة، وصدق الإحساس. وكلما تفككت الجبهات، أو تواطأت النخب، كان شعره يعيد ترميم أرواحنا، يذكرنا أن المعركة لم تنتهِ، وأننا ما زلنا هناك، في منتصف الطريق، بلا دولة، بلا راية، بلا نصر.

رحل فؤاد، ونحن ما نزال نحفر في الجبل كي نعثر على ظل دولة، نحاول أن نلمح فيها ملامح الجمهورية التي حلمنا بها يوم اجتمعنا على صوت فبراير. رحل والبلاد لا تزال عالقة بين خرافة السلالة وصمت الجمهور، بين ضجيج البنادق التي لا توجَّه للعدو، وبين خيانة النُّخب التي انقلبت على الدم الذي سال في الساحات. لم تُرفع أعمدة الدولة بعد، ولم تُنتزع البندقية من كتف الهمجية، ولم يُعلَن النصر الذي كان يحلم به فؤاد في كل بيت شعري.

كل شيء بقي عالقًا، وحتى القصائد ما زالت تحارب وحدها، دون غطاء.

مات فؤاد قبل أن نصل، قبل أن نعبر المسافة التي تفصل الحلم عن الدولة، وقبل أن تفتح البلاد أبوابها للكرامة بلا خوف، بلا ميليشيا، بلا استعباد.

لقد رحل، ونحن ما زلنا نتهجّى الطريق نحو الدولة، نُعيد تجميع المعركة التي تبعثرت، ونرتق ثوب الثورة الذي نخرتْه الخيانات، والثغرات، والانتهازيون. رحل فؤاد، ونحن ما زلنا عالقين في شقّ التاريخ المفتوح على نزيف، بين زمنٍ لم يرحل، وزمنٍ لم يأتِ. رحل، وأصوات البنادق أعلى من صوت الحالمين، وخطابات الكذب أعلى من أصوات الشعراء.

مات صوت الشعب، ذلك الصوت الذي كان إذا أنشد، تساقطت من الكلمات سيوف ومعاول، وحلمٌ يفتح صدره للجمهورية. كان إذا تكلّم، صمتت الخطب، وتوارى السياسيون خلف أقنعتهم. مات من كان يكتب القصيدة كمن يكتب وصيته، وفي كل بيت شعري، كان يُودِعنا أمانة اسمها اليمن، ووصية اسمها الحرية، ونبوءة اسمها «الجمهورية».

رحل قبل أن نكمل الطريق، وقبل أن نجد مخرجًا من نفق الخديعة. وقفت الحرب على عتبة أعمارنا، وها نحن نرتجف داخلها منذ سنوات، نعيش في نصف بلد، بنصف حلم، بنصف علم، ونصف سيادة، ونصف نَفَس، بينما فؤاد كان يحلم باليمن كلها: بسماءٍ واحدة، وساحةٍ واحدة، ونداء واحد، وشعب لا يُقسم بالدم ولا يُخضعه السلاح.

كان فؤاد الحميري هو القصيدة حين تصبح شعبًا، وهو الشعب حين يصير لحنًا. كانت كلماته تخترق الصدور كما تفعل الرصاصات، لكن دون دماء، كانت تقلب القناعات وتفتح الجدران المغلقة في العقول. لم يكن شاعرًا عابرًا، كان ذاكرة الثورة الحيّة، كان عينها المفتوحة، وحنجرتها الصادحة، وضميرها الذي لم يساوم، ولم يهادن، ولم يخن.

رحل فؤاد، ولا تزال خريطة البلاد مشوشة، والهوية الجمهورية محاصرة. لم تُرفع بعد أعمدة الدولة، ولم تُجفف بعد دماء الشهداء، ولم تُستعَد عدالة الميادين. منابر الوطن صارت مرتعًا للمهرّجين، وساحات الحرية باتت خاوية إلا من الذكريات، والقصائد، والخذلان.

كان هو الذي يُطلق نداء الثورة كلما أوشك الحلم أن ينطفئ. يُربّت على قلوبنا بصوته، يوقظ فينا ذلك الإيمان القديم، بأننا وُجدنا لننهض، لا لنُركَع، وأن الشعوب لا تموت ما دامت تكتب، وتقاوم، وتحلم، حتى وإن خذلتها البنادق.

مات فؤاد الحميري، وما زلنا نحمل الثورة على أكتافنا كأمانة ثقيلة، نُقاتل بها وحدنا، وسط خذلان العالم، وصمت الداخل، وتواطؤ النخب. مات وهو يعلم أننا لم ننتصر بعد، وأن الطغيان ما زال قائمًا، والسلالة ما زالت تتفيأ ظلال العرش، والجمهورية لا تزال خلف القضبان.

مات الذي كانت كلماته تُصلّي للحرية، تؤذِّن للجمهورية، تصرخ في وجه الطغاة، وتُحرّض الريح على خلع العمائم. رحل قبل أن يُسقط الطغيان بصوته، وقبل أن يُنزِل القصيدة الأخيرة كرصاصة في صدر السلالة، وقبل أن تفتح البلاد أبوابها لحلمٍ لا يتوسل، ولا يستجدي، ولا يُنافق.

مات فؤاد، ونحن لم نكمل المعركة. ما زالت البنادق مشرعة في وجه الصدق، ما زالت الشاشات تكذب، والقبائل تهيمن، والمشيخات ترقص على جراح الناس. ما زالت الحرية محاصرة، والجمهورية محاصرة، والحقيقة محاصرة. رحل صوت فبراير الأعمق، رحل الشاعر الذي كان هو القصيدة، وكان هو الميدان، وكان هو الحلم.

رحل فؤاد، وتركنا نتسكّع بين الأطلال، نحاول أن نُكمل قصيدة لم تنتهِ، وثورة لم تنتصر، ومشروعًا وطنيًا لا يزال معلقًا بين شرف المعنى وخيانة التطبيق.

القصيدة لن تموت؛ ستبقى تُكمل المعركة من بعده. سنقرأها في وجه يتيم، في حنجرة مغنٍ مجهول، في دمعة سجين، في صرخة أرملة، في نَفَس طفلٍ لم يولد بعد، لكنه سيحملُ الحلم الذي عاش له فؤاد، ومات دونه.

كل شيء يتآكل، إلا صوت فؤاد. كل شيء يتراجع، إلا القصيدة. القصيدة ستبقى، والجمهورية ستقوم، وفؤاد سيظل حيًّا.

مقالات

شهادات مجروحة في الإبداع

لطالما قرأنا شهادات وتزكيات الأدباء لبعضهم البعض، سواء كانوا كتّابًا أو شعراء، والحقيقة التي يجب النظر من خلالها أن الشللية ليست على مجال معين أو ميدان واحد، بل تمتد إلى كل ما يخطر على البال وما لا يخطر على البال.

مقالات

حرب الظلال.. من يمسك بخيوط الشرق الأوسط؟ الجزء (2)

في خضم النزاعات المعقدة التي تعصف بالشرق الأوسط، كثيراً ما تُسلّط الأضواء على الأبعاد العسكرية والاقتصادية بوصفها المحددات الحاسمة لتوازنات القوى. غير أن هذه القراءة، رغم واقعيتها الظاهرة، تُغفل طبقات أعمق وأكثر تجذراً في البنية الذهنية والسلوكية للفاعلين؛ طبقات ترتبط بالاعتقاد، والذاكرة، والتاريخ المُتخيل. فخلف كل تحالف معلن، وضربة عسكرية، وعقوبة اقتصادية… تقف منظومة كاملة من الدوافع الرمزية والنفسية التي تُعيد إنتاج منطق الصراع، وتُشرعن أدواته، وتُؤدلج نتائجه.

مقالات

عن تصعيد طارق صالح ضد الرئيس العليمي

لسوء الحظ، لم يحظَ بيان الأمانة العامة للمكتب السياسي – على افتراض أن المكتب السياسي مكون قام بذاته وليس قيادة لمكون هو المقاومة الوطنية – بالأهمية التي يستحقها، فهو يؤشر إلى أول تصادم سياسي معلن بين عضو مجلس القيادة العميد طارق صالح، ورئيس مجلس القيادة الدكتور الجنرال رشاد العليمي.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.