مقالات
عن رحلتي الجهنمية إلى عدن -4- ( سيرة ذاتية 23)
بعد وصولي منطقة "الشُّريْجَة"، واصلتُ المشي باتجاه "كَرِش"، وفي طريقي حدث ما لم أكن أتوقعه: رجلان مسلحان ومتسخان ظهرا فجأة ولا أدري من أين خرجا، وطلبا بقوة السلاح أن أعطيهما كلّ ما لديّ من نقود. وبعد أن قلت لهما إنني لا أملك نقودًا، لم يصدقاني، وقاما بتفتيشي، وفحص جيوبي. ولما لم يجدا شيئًا، زعلا مني، ثم وقد أبصرا الساعة في معصم يدي اليسار انتزعاها، وراح أوسخهم من شدة غضبه يلعنني ويقول لي وهو يدفعني بقوة: "امشِ، لعنة الله عليك".
ومن قوة الدفعة سقطتُ أرضًا، لكني فرحتُ وحمدتُ الله لأنني نجوتُ من شرهما. وكان المكان الذي وجدتهما فيه مكانًا منعزلًا، وموحشًا، لا أثر فيه، ولا دليل على وجود حياة؛ لا بشر، لا شجر، وليس ثمة صوت يُسمع غير صوت وقع خطواتي.
وبعد أن قطعتُ مسافةً من المكان الذي استولى فيه الرجلان المسلحان على ساعتي، أبصرتُ شجرةً لها ظل، وفرحتُ حين رأيتها، وفرحتُ أكثر حين جلستُ تحتها، ذلك لأن ظلها خفف من شعوري بالتعب والعطش، وخفف من حزني على ساعتي التي كانت كل ثروتي.
ومن تحت الشجرة رأيتُ قبيلةً من المهمشين (الأخدام) قادمةً من جهة اليمين، وكان عدد أفرادها قرابة ثلاثين فردًا، وكان يبدو من كثرة الصُّرَر التي يحملونها كأنهم حملوا مخيمهم معهم ولم يتركوا شيئًا. وعندما رأيتهم تبخر خوفي وشعرتُ بالأمان، ووجدتني وسطهم لكأنني واحدٌ منهم. وحين سألتهم عن وجهتهم قالوا إنهم ذاهبون إلى لَحَج. وعندما سألوني قلت لهم: "عدن".
وبدوا مستغربين وغير مصدقين أن شخصًا مثلي ومن عِليّة القوم يمشي مثلهم في تلك القفار التي يمر فيها المسافرون بالسيارات وليس سيرًا على الأقدام. لكنهم فرحوا حين رأوني أسايرهم وأتكلم معهم.
وبعد أن قطعوا مسافة، توقفوا للراحة وتناول الأكل، وكان في ظنهم -حين عزموني- أنني سوف أرفض عزومتهم، ولن آكل من أكلهم. أما حين أكلتُ من الطعام الذي يأكلونه، وشربتُ من الماء الذي يشربونه، فرحوا واعتبروني واحدًا منهم، وقال لي كبيرهم ضاحكًا -وهو يشير إلى ثلاث صبايا- إنني صرت واحدًا منهم، وأن عليّ أن أختار واحدة من الصبايا لكي يزوجني، وعندما قال ذلك ضحك الجميع بما في ذلك الصبايا الثلاث.
كانوا عندما يتعبون من المشي، أو يتعب أطفالهم أو كبار السنّ فيهم، يتوقفون للراحة، ولم يكونوا مثلنا يستعجلون في السير كي يصلوا؛ ليس فقط لأن البطء كان فلسفتهم، وإنما لأنه ليس هناك مكان يخصهم ويشعرون بأنه حقهم وملكهم حتى يستعجلوا في الوصول إليه.
ومثلما كانوا يبطئون في سيرهم كانوا يبطئون في أكلهم إذا أكلوا، وفي وقوفهم إذا توقفوا، وكانوا حين يتوقفون لأي سبب من الأسباب، ولو لوقت قصير، يجدون في ذلك التوقف فرصةً للمرح واللهو.
وكنتُ أستغرب ذلك منهم، وفي إحدى المرات توقفوا في وادٍ تكتسي ضفتاه بنوع من الشجر ينمو بشكل عرضي. وكان ما لفت انتباهي أنهم أخذوا وقتًا أكثر من المطلوب، وشعرتُ بالانزعاج لتأخرهم. وعندما سألتهم عمّا ينتظرون!! راحوا يشيرون إلى شجر الوادي ويضحكون، وكنتُ أستغرب ذلك منهم.
وفيما بعد، رأيتُ فتى وفتاة يخرجان من بين الشجر، وعرفتُ أنهم كانوا ينتظرون الفتى والفتاة (.........). ومع أن الفتى والفتاة تسببا في تأخيرهم إلا أنهم لم يزعلوا منهما؛ لكونهما أبطآ؛ ذلك لأن البطء فضيلة عند المهمشين، ثم إنهم ليسوا مستعجلين، وليس لديهم ما يجعلهم يسرعون ويستعجلون ويقلقون لأجله.
بعد خروج الفتى والفتاة من بين الشجر تحركنا وواصلنا المشي. وفي طريقنا لقينا شاحنةً واقفةً ومتعثرةً، وعندما أبصر سائقها هذا العدد الكبير من المهمشين فرح واستبشر خيرًا، وطلب منهم أن يدفعوا الشاحنة كي تنهض وتتحرك، ووعد أنه سوف يوصلهم إلى أي مكان يريدون إن هم أنجزوا المهمة بنجاح.
وكان هناك بين المهمشين رجالٌ وفتيانٌ أقوياء. وبعد أن وعد السائق بأخذهم معه راحوا يدفعون الشاحنة بكل عزيمةٍ وإصرار، وراحت النساء والصبايا يشجعنهم وينفخن فيهم لرفع معنوياتهم.
وبعد أن نهضت الشاحنة وتحركت، رحن يصفقن ويزغردن، ولحظتها سمح لهم السائق بالركوب. وخلال ثوانٍ تسلقوا الشاحنة وبدوا أشبه ما يكونوا بقرود تتسلق شجرة ضخمة.
وحين أبصرني السائق بينهم استغرب، وقال لي: "وانت ما دخلك بينهم؟ وليش تمشي مع الأخدام؟!".
وطلب مني أن أركب جنبه في المقدّمة، لكني رفضتُ وركبتُ مع المهمشين في الخلف. وبعد ركوبهم استخفّ الفرح بهم فراحوا يغنون ويرقصون فوق الشاحنة، ويقرعون الطبول لكأنهم في عرس.
وعند وصولنا لَحْج نزلوا، وبقيتُ لوحدي فوق الشاحنة. وفي مدينة الشيخ عثمان نزلتُ، ومنها واصلتُ المشي إلى مخبز أخي سيف في "المنصورة".
وفي اليوم التالي، ذهبتُ إلى كلية "بلقيس" وأخرجت شهادة نقلي من صف ثاني إلى صف ثالث إعدادي. ولأني مسافر في بعثة إلى ألمانيا لدراسة اللاسلكي، أعطاني أخي سيف وأخي عبدالحكيم فلوسًا، واشتريتُ ملابس على موضة تلك الأيام، وعدتُ إلى صنعاء على عجل حتى لا تفوتني المِنحة.
ويوم ذهابي إلى الوزارة، رأيتُ كشفًا بأسماء الطلبة المبتعثين إلى ألمانيا معلّقًا في بوابة الوزارة، وحين رحتُ أقرأ الأسماء تفاجأت بأن اسمي غير موجود. ولحظتها تذكرتُ رحلتي الجهنمية إلى عدن، واسترجعت كل التعب والمعاناة والفجائع. وذهبتُ إلى الإدارة وأنا زعلان ومتألم وموجوع، وأول ما أبصرتُ الموظف الذي طلب مني أن أحضر شهادتي سألته عن السبب في أن اسمي غير موجود بين الأسماء، قال لي إنني تأخرتُ في إحضار الشهادة.
لكن الطالب الرداعي قال لي إنني تأخرتُ في تقديم الرّشوة.