مقالات
حين مات جستنيان الأول في القسطنطينية اشتعلت الثورات في اليمن
في الرابع عشر من نوفمبر سنة 565 للميلاد، انطفأت في القسطنطينية شعلة الإمبراطور الروماني جستنيان الأول، آخر الكبار في تاريخ الإمبراطورية الشرقية. قد يكون موت جستنيان الأول بدا في ظاهره شأنًا بيزنطيًّا داخليًا؛ لكنه كان في العمق شرارة أعادت تشكيل خرائط النفوذ في أطراف العالم القديم، حتى بلغ صداه اليمن البعيدة؛ إذ كانت اليمن ترزح حينها تحت وطأة الاحتلال الحبشي المدعوم من روما الشرقية.
وتذكر الروايات اليمنية أن الأقيال والأذواء -ما تبقى من القيادات المحلية- لم يفوتوا تلك اللحظة. كانوا يترقبون أي ارتجاج في مركز القوة الذي أسند ظهر الأحباش طوال عقود، وما إن وصلت إليهم أخبار الاضطرابات التي أعقبت وفاة جستنيان، حتى أدركوا أن ميزان التحالفات الدولية قد مالت كفته. فاستثمروا ذلك التحول الحاد بإحياء جذوة الثورات الشعبية التي خمدت خلال العقدين الخامس والسادس للميلاد، وأعادوا ترتيب صفوفهم، متلمسين نافذة تاريخية ضيقة يمكن عبرها قلب المشهد السياسي في اليمن.
لقد كانت وفاة الإمبراطور الروماني جستنيان الأول، رغم بُعدها الجغرافي، لحظة كشفت هشاشة الاحتلال الحبشي وارتباطه العضوي بالحماية البيزنطية. وحين اهتز المركز، اهتز معه الوكلاء على أطراف البحر الأحمر، فانبثقت في اليمن موجة مقاومة جديدة أثبتت أن التحولات الكبرى في الإمبراطوريات كثيرًا ما تكون الوقود الخفي لثورات الشعوب البعيدة.
وهنا تحديدًا تتضح الصلة بين موت الإمبراطور الروماني جستنيان الأول واندلاع الثورات اليمنية ضد الغزو الحبشي. فجستنيان الأول كان الداعم السياسي والعسكري الأبرز للمشروع الحبشي في جنوب الجزيرة العربية، ومع موته تراجعت قوة الحماية البيزنطية واضطربت ركائز النفوذ الحبشي. وفي اللحظة التي اهتزّ فيها المركز الإمبراطوري، التقطت الزعامات اليمنية -من الأقيال والأذواء- تلك الإشارة التاريخية وأعادت إشعال الثورات التي كانت قد خمدت في أواخر القرن الخامس وبدايات السادس، بحسب ما نقله باحثون عن الروايات اليمنية القديمة.
كانت القسطنطينية ترى في اليمن أكثر من رقعة بعيدة على أطراف الخرائط؛ كانت تراها مفتاحًا لميزان التجارة العالمي، ومرتكزًا بحريًا يطوق الطريق الفارسي نحو الهند. ومن أجل هذا، دفعت الإمبراطورية الرومانية الشرقية حليفها الأقرب، مملكة أكسوم، نحو جنوب الجزيرة، ومنحته كل ما يلزم كي يتحول إلى ذراع يعمل باسمها دون أن تلوّث جيوشها بتراب الصحراء. أمّا القضية الدينية، وحكاية حماية مسيحيي نجران، فلم تكن سوى القشرة الأخلاقية لمشروع سياسي واسع، أرادت بيزنطة من خلاله أن تخنق النفوذ الساساني من بوابته البحرية، وأن تُحكم قبضتها على البحر الأحمر كما تُحكم القسطنطينية سيطرتها على مضائقها.
وحين مات جستنيان، انطفأت الشعلة التي كانت تغذّي هذا المشروع. اختفى الرجل الذي نسج التحالفات، وضبط حركة الموانئ، ووجّه المال والسلاح نحو أكسوم، فارتخت قبضة القسطنطينية على البحر، وتباطأ إيقاع دعمها، وانكشف الوجود الحبشي في اليمن بلا ظهير. أحسّت الزعامات اليمنية أن اللحظة التي انتظرتها طويلاً قد جاءت؛ لحظة الفراغ الدولي التي تسقط فيها الهيمنة حين يفقد أصحابها مركز القرار. فتقدم الأقيال والأذواء من عمق الأرض اليمنية، يتحسّسون ضعف الأحباش، ويستعيدون مساحتهم التاريخية، بينما كان النفوذ الحبشي يتحول شيئًا فشيئًا إلى ظلٍّ بلا جسد، ينتظر تلك اليد اليمنية التي ستدفعه خارج المشهد.