مقالات
أزمة الثقة في اليمن: من انقسام الداخل إلى استغلال الخارج (3)
تمثّل مرحلة ما بعد ثورة 11 فبراير 2011 لحظة كاشفة لمحدودية بنية الدولة اليمنية، وهشاشتها أمام التحولات العميقة التي أطلقتها الثورة. فعلى الرغم من أن الثورة فتحت الباب أمام إمكانية إعادة تأسيس الدولة على أسس حديثة، فإن الواقع أثبت أن الدولة التي كانت قائمة لم تكن سوى شبكة مصالح ومراكز نفوذ مترابطة حول شخص الحاكم، أكثر منها بنية مؤسسية قادرة على الصمود أو التجدد.
هشاشة الدولة بعد 2011: من الفرصة الضائعة إلى الانهيار القادم
مع سقوط نظام علي عبد الله صالح، بدت مؤسسات الدولة مكشوفة؛ إذ اتضح أن بنيتها كانت قائمة على توازنات قبلية وعسكرية ومناطقية أكثر من اعتمادها على عقد وطني جامع. كان يمكن لحظة ما بعد الثورة أن تكون فرصة لصياغة مشروع وطني يؤسس لدولة مواطنة ومؤسسات، لكن النخب السياسية التي تولت المرحلة الانتقالية تعاملت معها بمنطق تقاسم النفوذ، واعتبار ما جرى أزمة عابرة يمكن احتواؤها بالترضيات بدل البناء الجديد.
هذا القصور البنيوي فتح الباب لانقلاب سبتمبر 2014، الذي مثّل لحظة سقوط آخر أقنعة الدولة. إذ انهارت المنظومة أمام جماعة عقائدية منظمة تمتلك مشروعا وسلاحا وإرادة سياسية متماسكة، لتتحول الأزمة السياسية إلى أزمة سيادة شاملة.
تحالفات ما بعد الثورة: صالح والحوثيون نموذجا للتحالفات المتناقضة
يعد تحالف علي عبد الله صالح مع جماعة الحوثي أحد أكثر التحالفات السياسية تناقضا في تاريخ اليمن الحديث؛ فهو لم يكن مجرد تحالف ظرفي، بل تجسيدا لأزمة نخبوية عميقة. سعى صالح، بدافع الانتقام واستعادة الاعتبار، إلى توظيف جماعة مسلحة عقائدية لخدمة طموحه السياسي، متجاهلا التحولات التي أفرزتها الثورة، ومتوهما أنه قادر على تطويع الخصوم كما فعل في الماضي.
لكن حساباته انقلبت عليه؛ لم ينتقم من خصومه فحسب، بل أسهم في تفكيك الدولة ذاتها وتسليم أدواتها لجماعة تمتلك مشروعها الخاص. وبذلك، انتقل الصراع من تنازع داخل مؤسسات الدولة إلى حرب بين سلطات موازية خارج إطار الدولة.
التدخل الإقليمي: من شعار استعادة الدولة إلى إعادة إنتاج التشظي
عند دخول التحالف العربي الحرب في مارس 2015 تحت شعار “استعادة الدولة وإنهاء الانقلاب”، بدا الأمر وكأنه تدخّل يعيد ترتيب المشهد لصالح الشرعية. لكنّ ما حدث عملياً كان أكثر تعقيداً. فقد تباينت أولويات الدول المتدخلة - خصوصاً السعودية والإمارات - وتحوّل الدعم العسكري والسياسي إلى عملية توزيع غير معلنة لمناطق النفوذ.
ومع مرور الوقت، نشأت سلطات أمر واقع متعددة في الجنوب والشرق والساحل الغربي، بعضها بغطاء مباشر من أطراف داخل التحالف نفسه، فيما عزز الحوثيون سلطتهم في الشمال بفضل الدعم الإيراني المستمر. وهكذا، بدل أن يوحّد التدخل الخارجي القرار الوطني، تفاعلت المسارات الإقليمية المتعارضة لتُعيد إنتاج التشظي بوسائل جديدة، ويصبح اليمن حلقة في صراع أكبر من قدرته على الاستيعاب.
من تعدد مراكز القوى إلى تعدد مراكز الحكم: طور جديد من الانهيار
وفي هذه المرحلة، دخل اليمن طورا جديدا وخطيرا، هو طور تعدد مراكز الحكم. لم تعد هناك دولة مركزية تحتكر القرار والعنف المشروع، بل سلطات موازية ومتعارضة: جماعات مسلّحة، زعامات قبلية، مجالس أمر واقع، وأجهزة أمنية وإدارية تعمل خارج نطاق الدولة أو ضدها. الجميع رفع شعار “الشرعية” أو “الثورة” أو “القضية”، لكن النتيجة كانت واحدة: تفكّك فكرة الدولة نفسها، وانحسارها إلى سلطات محلية متنازعة تتقاسم الأرض والسلطة والثروة.
ففي الجنوب نشأت سلطات محلية ذات أجندة انفصالية، بينما ظل الشمال تحت سلطة جماعة عقائدية عابرة للمواطنة الوطنية، وبينهما مناطق تتوزع فيها مراكز قرار أمنية واقتصادية مستقلة، تُديرها قوى محلية أو وكلاء إقليميون، في مشهد يجسد بوضوح معنى “تعدد مراكز الحكم” كواقع يومي أكثر منه توصيفا معرفيا.
وتكمن خطورة هذه المرحلة في الفرق الجوهري بين تعدد مراكز القوى وتعدد مراكز الحكم. فالأولى تُعبّر عن تنازع داخل مؤسسات الدولة ذاتها بين نخب متصارعة على النفوذ، لكنها تبقى – رغم ذلك – في إطار الدولة. أما الثانية، فهي مرحلة انهيار الدولة ذاتها، حين تفقد قدرتها على احتكار العنف والسيادة، وتتحول السلطة إلى جزر سياسية وجغرافية متنازعة تمتلك مواردها وأجهزتها وأسلحتها الخاصة.
وقد تناول بعض الباحثين هذه التفرقة المفصلية، ومن أبرزهم جويل ميغدال في دراسته "الدولة في المجتمع"، التي ميّز فيها بين الدول التي تتنازعها مراكز قوى داخلية تظل خاضعة نسبيا للنظام المؤسسي، وتلك التي تنهار فيها البنية الاحتكارية للسلطة، فيتحوّل المجتمع ذاته إلى حاضنة لسلطات موازية تحل محل الدولة. وهذا النموذج الأخير هو ما انزلق إليه اليمن بعد 2015، حيث تفككت السلطة إلى جزر سياسية متنازعة، لكل منها مشروعها وسلاحها ومركز قرارها الخاص، وحليفها الإقليمي الذي يمدها بالدعم مقابل الولاء.
بهذا المعنى، غدت اليمن فضاء سياسيا مفتتا، تتقاسم فيه مراكز الحكم المتعددة السلطة والثروة، بينما تراجعت “الشرعية” إلى إطار رمزي بلا مضمون فعلي.