مقالات

عن رحلتي الجهنمية إلى عدن -3- (سيرة ذاتية -22-)

12/11/2025, 07:09:18

عندما أبصرت أهل القرية يتوارون، ويعودون إلى بيوتهم، ويغلقون الأبواب خلفهم، شعرت بالرعب. ولم أدرِ ماذا أفعل وإلى أين أذهب!! ولحظة أظلمت القرية تسرب الخوف إلى نفسي، وتسبب في انحدار معنوياتي، وأجهز على بقايا أملي في الحصول على مأوى. وحين سألت أحدهم عن بيت الشيخ أشار إلى دار من أربعة أدوار بواجهة بيضاء، فاتجهت إليها، ورحت أطرق الباب. وسمعت صوت امرأة تقول لي:

الشيخ عاده ما روحش.
وبعد أن قالت لي إنه لم يعد، بقيت لصق الباب أنتظر عودته. وفيما أنا واقف قرب الباب رأيت شخصًا يتجه نحوي، وأول ما أبصرته أبصرت الشر في عينيه، ثم لمسته في نظراته وفي كلماته وهو يسألني: من أكون؟ ولماذا أقف في باب داره؟ وما هو هدفي؟
ومن شدة خوفي ارتبكت، ولم أدرِ ماذا أقول له، وشعرت كأن لساني استحال قطعة من الخشب. وكان أن راح الشيخ يضغط عليّ لكي أعترف، وأخبره بالهدف من دخولي القرية ووقوفي لصق باب داره. وعندما قلت له إنني دخلت القرية بحثًا عن مأوى، لم يصدقني، وطلب مني أن أخبره بالحقيقة، وأذكر له اسم الجهة التي أرسلتني إليه، وكان لديه شك بأن هناك من أرسلني لقتله.

أيامها، وبسبب المد الثوري والمد الاشتراكي، وكذا بسبب التوتر بين نظام عدن ونظام صنعاء، كان المشايخ يعيشون حالة خوف، ويعتقدون أن هناك من يتآمر عليهم ويريد قتلهم والتخلص منهم باعتبارهم إقطاعيين ورجعيين وثورة مضادة. ثم إن الخوف كان يضخم أوهامهم تلك، ومن شدة خوفهم كانوا يستوقفون كل من يمر بقراهم ومناطقهم ويستجوبونه ويشكّون به. وبعد أن حلفت له يمينًا بأني جئت إلى بيته بحثًا عن مأوى، قال لي بصوت مفعم بالغضب:

والله لو تحلف مئة يمين ما أصدقك.

ومن البيت المقابل ظهر أحدهم من النافذة وقال له:

أيش في يا شيخ؟ ومن هو هذا اللي بباب بيتك؟
قال له الشيخ: هذا واحد شوعي ملعون أرسلوه الشيوعيين الملاعين يقتلونا.

وبمجرد أن قال له ذلك خرج الرجل من بيته يجري وأمسك بي، وقام بتفتيشي، ولما لم يجد في حوزتي أي أداة للقتل قال له:

هذا ولد مسكين يا شيخ وما في معه ولا حتى سكين.
وزعل الشيخ من جاره وقال له:

أنت ما دراك بالشيوعيين؟ الشيوعيين هؤلاء ملاعين.
وراح يذكر له أسماء عدد من المشايخ الذين تم اغتيالهم.

وفي تلك الأيام كان المشايخ في المناطق المتاخمة للجنوب هم الذين يتصدون للشيوعية، وكانت كلمتهم مسموعة لدى الأجهزة الأمنية، وكل ما يقولونه هو الحقيقة. ويكفي أن يقول الشيخ إنه وجدني في الليل واقفًا بباب بيته حتى تثبت التهمة ضدي. وليلتها حدثت مشادة بين الرجل الطيب وبين الشيخ الحقير، وبالكاد استطاع أن ينتزعني من بين مخالبه.

بعدئذٍ راح يقودني في أزقة القرية المظلمة، وشعرت وهو يطوف بي حول البيوت بأنه قد دبر أمرًا مع الشيخ ويريد بي شرًّا. وحين سألته إلى أين سوف يأخذني قال لي:

بيت الصوفي.
قلت له: من هو الصوفي؟
قال لي: هذا أبو المساكين، بس لما يسألوك قل لهم إنك مسكين.
قلت وقد استفزني كلامه: مش أنا مسكين.
قال وهو مستغرب من رد فعلي: ولو مش أنت مسكين، قل لهم إنك مسكين عشان يفتحوا لك الباب.
وفهمت منه أن كلمة "مسكين" هي كلمة السر، وأن الصوفي هذا لا يفتح بيته في الليل إلا بكلمة السر: "مسكين". وبعد أن اقتادني إلى باب بيت الصوفي تملكني شعور بالكبرياء، وقلت لنفسي وأنا أطرق باب البيت:

لن أقول لهم إنني مسكين.

وبعد عدة طرقات تناهى إلى سمعي صوت في غاية النعومة والعذوبة، وفيه أنوثة تجرح القلب، وبمجرد أن سمعتها تقول:

من بالباب؟
خفق قلبي وتبخر ذلك الشعور بالكبرياء، وقلت بصوت واهن:

مسكين.
وبقيت أنتظر نزول أحدهم ليفتح لي الباب، لكني تفاجأت بفتاة جميلة ممشوقة القوام تحمل فانوسًا، وعندما رأيتها على ضوء فانوسها لم أصدق عيني، ولم يخطر في بالي أن جمالًا مثل هذا موجود في تلك القرية البائسة. وبعد أن فتحت لي سارت أمامي وراحت تصعد درج البيت بخفة الغزال. ثم، وقد أوصلتني إلى الديوان، وقفت بقوامها الممشوق ترحب بي، وعلى ضوء الإتريك راح جمالها يتعاظم. وحين سألتها عن أبيها قالت لي:

أبي يصلي.
قالتها بصوت عذب أوجع قلبي من شدة عذوبته.

ورحت أستغرب من هذا الرجل الذي يصلي في قرية كل أهلها لا يصلون ولا يعرفون ما هي الصلاة!! وبعد انصرافها بقيت في الديوان وأنا مذهول من جمالها، ومن قوامها، ومن تقاطيع جسدها، ومن عذوبة صوتها، ومن تكور نهديها، ومن كل تلك المحاسن والمواهب. وبعد قرابة ربع ساعة دخل أبوها الصوفي تسبقه ابتسامته، وكان ما يزال شابًا وفي غاية النظافة والوسامة، وراح يرحب بي. لكن ما أثار استغرابي هو أن ابنته، وقد أحضرت العشاء، جلست تتعشى معنا، وكانت تلك أول مرة أرى فتاة تتعشى معي وليست أختي. ورغم فرحتي بجلوسها إلى جانبي، إلا أنني لم أستطع أن آكل كما ينبغي، وكما يمليه عليّ شعوري بالجوع. وحتى لا تعتقد أنني شره، رحت آكل برؤوس أصابعي، فضلًا عن أنني نهضت قبلها وقبل أبيها وقبل أن أشبع من أكلها اللذيذ.

بعد أن انتهينا من العشاء أحضر الصوفي قاتًا، وكانت العادة في تلك القرية أن الناس يخزنون ليلًا ويسمرون. وليلتها خزّنا وسمرنا في الديوان على ضوء الإتريك، لكني انزعجت واكتئبت وانكمشت حين وجدتني في الديوان مع أبيها، وقلت لنفسي:

طالما تعشت معنا، مفروض تسمر معنا.
وبدت لي السمرة مع أبيها أشبه ما تكون بعقوبة. لكن أباها، وقد انزعج من تأخرها، راح يناديها باسمها ويطلب منها أن تسرع في الدخول، ولحظتها عرفت أن اسمها "صفاء". ودخلت صفاء وهي بكامل زينتها، ولشدة جمالها لم أجرؤ أن أنظر إليها، فقد كان جمالها من النوع الجارح. كنت قد أحببتها من لحظة سماعي صوتها، وأما ونحن في الديوان فشعرت بأن حبي لها يتغلغل داخلي كأنه السم ويكاد يقتلني. ثم إن وجودها معنا في الديوان كان قد شتت انتباهي وشردني، وكان أبوها كلما سألني سؤالًا يجدني في حالة شرود، وكنت بيني ونفسي أتساءل من أين لها هذا الجمال الذي يجرح العين ويجرح القلب!! وتفاجأت حين قال لي أبوها إنه ليس من أهل القرية!! وعندما سألته من أين هو؟ قال لي:

أنا من يافع.

وبعد أن تجاذبنا أطراف الحديث لأكثر من ساعتين، استأذن مني، وراح يملي على ابنته كلامًا في التصوف لم أفهمه، وهي تكتب ما يمليه عليها بخط جميل، حتى إنني في معتقل (دار البشائر) عندما قال لي الجلاد محمد خميس، رئيس جهاز الأمن – رحمة الله عليه – أثناء تحقيقه معي:

حسن خطك.. خطك زفت.
تذكرتها وتمنيت لو أن لي خطًا مثل خطها.

وبعد أن أملى عليها أبوها فصلًا من كتاب، انسحب إلى غرفة نومه، وانسحبت هي إلى غرفة نومها. وأما أنا فقد شرد الحب نومي ولم أنم ليلتها. وفي الصباح، وبعد أن تناولت الصبوح معهما، ودعتهما وأنا منكسر وحزين وموجوع من هذا الحب الذي داهمني على حين غرة. ورحت ألقي باللوم على أبيها الذي وضعها في طريقي. ويومها، وأنا أسير في الطريق إلى عدن، كنت أسير مثل أي مسكين، وكانت البنت صفاء تنغرس في قلبي مثل السكين.

مقالات

مأساة الفاشر .. ما أشبه دارفور اليوم بالبارحة

قصص قتل واغتصاب وسلب ونهب وقرى محروقة، وبقايا منازل مهدمة، وحيوانات مقتولة أو نافقة، ولا حياة في عدد من القرى حول مدينة (الفاشر)، كبرى مدن الولاية في إقليم دارفور غربي السودان، بدت أثراً بعد عين، وكل شيء كان يقول إن "الجنجويد مرّوا من هنا".

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.