مقالات

شبكة النفوذ الإماراتي في اليمن .. إدارة النفوذ بالوكالة

26/09/2025, 12:47:19

في صيف عام 2019 أعلنت أبوظبي ما سمته إعادة انتشار لقواتها في اليمن، وقدمت الخطوة على أنها انتقال من الحرب المفتوحة إلى أولوية السلام ومكافحة الإرهاب. غير أن ما جرى على الأرض كان أقرب إلى انسحاب شكلي تقلصت معه الكتلة القتالية الظاهرة من دون أن تتراجع بنية النفوذ التي بنتها الإمارات خلال سنوات الحرب. فقد بقيت الشبكات المحلية التي مولتها ودربتها وتابعتها تعمل بكامل طاقتها، فيما احتفظ بخطوط إسناد خلفية وقواعد لوجستية خارج الحدود تضمن استمرار اليد الطولى من دون الحاجة إلى التماس المباشر. تراكمت دوافع هذا التحول عبر مزيج من الكلفة البشرية والسياسية منذ ضربة صافر، والضغط الحقوقي الدولي، والاعتبارات الاقتصادية والأمنية المرتبطة بتصاعد تهديد الصواريخ والمسيرات والحوادث البحرية خلال عام 2019، إضافة إلى رغبة ظاهرة في تقليل الاحتكاك المباشر مع الحوثيين وإيران مع إبقاء أوراق السيطرة في البحرين العربي والأحمر.

جرى تنفيذ التحول عبر استراتيجية إحلال الوكلاء المحليين محل القوات المباشرة. تم تمكين وحدات الحزام الأمني في عدن ولحج والضالع، وتغذية النخبتين الشبوانية والحضرمية بالموارد اللازمة، وتوسيع ألوية العمالقة بوصفها قوة اقتحام سريعة الحركة، وإعادة تدوير بقايا الحرس الجمهوري في الساحل الغربي تحت مسمى المقاومة الوطنية بقيادة طارق صالح. تولت هذه التشكيلات نقاط التماس والدوريات وإدارة المرافق الحساسة التي كانت تشرف عليها وحدات إماراتية، بينما انتقلت أبوظبي من نمط الجيش المتمركز إلى نمط إدارة النفوذ عن بعد. حافظت الإمارات في الوقت نفسه على سلسلة عقد لوجستية مترابطة: فمن قاعدة عصب الإريترية كمنصة خلفية، إلى منشأة بلحاف الغازية بوصفها مفصل أمني اقتصادي، إلى مطار الريان في المكلا كمحطة إسناد شرقية، مرورا بالمخا التي تحولت إلى مركز قيادة لشبكة طارق صالح، وانتهاء بجزيرة ميون في قلب باب المندب وسلسلة سقطرى عبد الكوري التي تراقب عينا واسعة على المحيط. في هذا الإطار بقيت اليد الإماراتية حاضرة عبر مستشارين وضباط ارتباط وتمويل وتسليح وانتقاء وحدات محلية مزودة بأفضليات تقنية في الاتصالات المشفرة والاستطلاع والمسيرات، مع استمرار نفوذها في العقود والخدمات في الكهرباء والاتصالات والموانئ بما يسمح بضبط المجال الحيوي من خارج الصورة المباشرة.

المجلس الانتقالي الجنوبي ودوره في الشبكة

برز المجلس الانتقالي الجنوبي كمظلة سياسية منظمة لمشروع النفوذ، فبعد ولادته في مايو 2017 أعادت أبوظبي تشكيله من إطار احتجاجي متشظي إلى بنية حكم موازية تجمع بين القبيلة والمنطقة والعقيدة والسلاح والإدارة.

 تحكم المجلس فعليا في عدن وأجزاء واسعة من محيطها وأقام منظومة أمنية عبر الحزام والنخب وألوية متحالفة، وأدار خطابا تعبويا يرفع شعار الجنوب أولا ويؤسس لذراع إعلامية تفاوضية في الخارج. 

هذا التموضع مكن الإمارات سياسيا من شرعنة حضورها عبر عنوان محلي يمنحها قدرة تعطيل وتمرير داخل مؤسسات الدولة من خلال اتفاق الرياض وما تلاه، كما وفر لها توازنا مع خصومها داخل الشرعية، خصوصا التيار الإصلاحي، وخفف الكلفة الدبلوماسية بالظهور على هيئة داعم لقضية الجنوب ومكافحة الإرهاب بدل الظهور كقوة احتلال متمركزة.

أمنيا اكتسبت أبوظبي من خلال شبكة الانتقالي ونظرائه قوة ضبط محلية متأهبة تحمي الموانئ وخطوط الإمداد وتراقب الشريط الساحلي الممتد من المخا إلى ميون فسقطرى، وقادرة على تعطيل أي تحركات او تموضعات لخصومها او تهديد لمكاسبها على الأرض او في الجزر.

 تقلصت حاجتها لتمركز مكشوف وارتفعت قدرتها على الإنكار المعقول عند وقوع احتكاكات أو اتهامات حقوقية. 

ولأن المنظومة تعمل بمنطق شبكة، فإن الميدان يعاد تشكيله بسرعة عبر تدخلات نوعية مثل اندفاع الوية العمالقة نحو شبوة ومحيط مأرب في 2021 2022، ثم تقنن النتائج باتفاقات سياسية تجعل الأمر الواقع قاعدة للمرحلة التالية.

«اليد غير المرئية»: إعادة تشكيل البيئة السياسية والاجتماعية

لم تقتصر هندسة النفوذ على السيطرة العسكرية، بل شملت إعادة تشكيل البيئة السياسية والاجتماعية والإعلامية.

فقد شهدت عدن ومحيطها موجات اغتيالات خلال الأعوام 2015 2019 طالت دعاة ووجوها سياسية وصحفيين مع ذروة واضحة في عام 2018، وتوازى ذلك مع تقارير حقوقية عن اعتقالات تعسفية واختفاءات قسرية وتعذيب داخل شبكات احتجاز تديرها قوات محلية مدعومة إماراتيا. 

ومع ترسخ الأمر الواقع جرى إحلال وظيفي وإداري في الموانئ والمطارات والهيئات الحساسة عبر استبدال طواقم بموالين، كما فرضت قيود على العمل النقابي والحقوقي والصحافي وبرزت حملات تمييز مناطقي وتنظيم للمداخل إلى عدن خلال فترات التوتر، وهو ما ولد بيئة ردع تضيق المجال العام وتحول جهاز الأمن الموازي إلى أداة إدارة مدن وخدمات لا مجرد قوة مواجهة على الجبهات. في المقابل اشتغلت ماكينة سرديات إعلامية تصف الخصوم، وخصوصا حزب الإصلاح، باعتبارهم تهديدا أمنيا وخدميا وتقدم وحدات الانتقالي كبديل منضبط قادر على تقديم الأمن والخدمات.

ملف التطبيع والارتزاق

في ملف التطبيع تبنى قادة المجلس الانتقالي خطابا مؤيدا للانخراط في الاتفاق الإبراهيمي وإقامة علاقات مع إسرائيل في حال قيام دولة جنوبية مستقلة، وهو موقف سياسي منسجم مع مسار أبوظبي منذ عام 2020 لكنه لا يملك أثرا قانونيا نافذا لأن الانتقالي كيان غير سيادي. أما على مستوى توظيف المقاتلين خارج اليمن فقد ثبتت وثائق حقوقية دولية نمطا يتعلق بتجنيد سودانيين ونقلهم إلى ليبيا لدعم قوات حفتر عبر شركات وسيطة، وتواترت اتهامات بدعم لوجستي لقوات الدعم السريع في السودان مع نفي إماراتي، بينما بقيت الروايات المتعلقة بمقاتلين يمنيين يقاتلون كمرتزقة في السودان أو ليبيا في نطاق المزاعم المتداولة التي لم تخضع بعد لتحقيق أممي علني مكتمل يثبت سلاسل الحيازة والارتباط العملياتي، ما يستدعي المقاربة الحذرة عند الاقتباس.

الأذرع الأخرى المكملة

إلى جانب الانتقالي شيدت أبوظبي أذرعا مكملة تضمن اتساع الشبكة وتوازنها. فقد تحول طارق محمد عبدالله صالح إلى واجهة شمالية على الساحل الغربي تربط المخا بميون وتقدم بديلا غير إصلاحي داخل المشهد الشمالي، مع مكتب سياسي وإعلام خاص يضفي على سلطته المدنية مناخا مؤسساتيا. 

واتخذ عبد الرحمن أبو زرعة المحرمي موقع رأس الحربة السلفية عبر ألوية العمالقة التي صارت قوة اقتحام ومناورة تدفع حيث يلزم كسر التوازن ثم يعاد ترتيب الخرائط السياسية وفق النتائج. 

وفي الشرق مثل فرج البحسني الوجه الإداري والعسكري القادر على منح شرعية محلية لتدفقات الأمن والخدمات في المكلا، محافظا على توازن محسوب مع الرياض في بيئة تزاحم رعاة. 

وفي تعز أدى أبو العباس في وقت مبكر دور الكابح الحضري لنفوذ الإصلاح عبر كتائب سلفية أعيد تموضعها لاحقا خارج قلب المدينة مع بقاء تأثيرها كرأس جسر قابل للتفعيل عند الحاجة.

 وتمت إعادة الحياة لجزء من حزب المؤتمر الشعبي العام في ساحل تعز والحديدة ليعمل بوصفه آلة سياسية وإعلامية لطارق صالح تقدم سردية الدولة والمؤسسة وتمنح سلطات الأمر الواقع غطاء مدنيا. وعلى قاعدة هذه الأذرع تعمل تحالفات حزبية وقبلية، إذ توزع الرواتب والامتيازات والعقود على شيوخ ومتعهدين محليين لضمان ولاءات منخفضة الضجيج تؤمن ظهر العمليات وخطوط الطاقة والإمداد من شبوة وبلحاف إلى المكلا فالساحل الغربي والجزر.

التوظيف لخدمة المصالح والقواعد العسكرية

منذ بدء التدخل العسكري في اليمن، لم يكن الهدف مقتصرا على مواجهة الحوثيين أو دعم الشرعية كما روج في الخطاب الرسمي، بل جرى توظيف الصراع لتكريس شبكة مصالح وقواعد عسكرية استراتيجية تمتد على طول السواحل والجزر اليمنية. تحولت الأراضي اليمنية إلى مسرح لإعادة تشكيل ميزان القوى الإقليمي من خلال السيطرة على المنافذ البحرية وخطوط الطاقة، بحيث أصبح الوجود العسكري أداة مباشرة لضمان النفوذ الاقتصادي والسياسي.

في شبوة مثلا، تحولت منشأة بلحاف الغازية من مشروع وطني للتصدير إلى قاعدة مزدوجة الطابع: أمنية واقتصادية. تحت ذريعة الحماية جرى تعطيل التصدير وفرض واقع أمني يربط الموقع مباشرة بأجندة أبوظبي، ما حرم اليمن من مورد حيوي وأبقى المنطقة في دائرة التوتر. أما في حضرموت فقد أعيد تشغيل مطار الريان كموقع أمني لوجستي خاضع للرقابة الإماراتية، بينما حرمت المحافظة من الاستفادة الطبيعية من هذا المرفق الحيوي. وفي المخا، أعيد بناء المدينة ومينائها بوصفها مركز قيادة متكامل تديره قوات طارق صالح برعاية إماراتية، لتصبح حلقة وصل بين الساحل الغربي وقواعد الجزر.

جزيرة ميون في قلب باب المندب تمثل العقدة الأهم في هذه الشبكة. هناك أنشئت مدارج ومرافق عسكرية تتيح مراقبة الممر البحري الأكثر حيوية في العالم. وبالمثل تحولت سقطرى إلى ساحة نفوذ متقدمة، حيث أقيمت منشآت اتصالات ومرافق عسكرية ومشاريع بنية تحتية مرتبطة أكثر بأبوظبي من صنعاء أو عدن، بما في ذلك جزيرة عبد الكوري التي غدت عينا متقدمة على المحيط الهندي. هذه المواقع مجتمعة لم تدار باعتبارها جزءا من السيادة الوطنية بل كمنظومة قواعد متشابكة تتبع مصالح إقليمية ودولية، تجعل اليمن طرفا غائبا عن تقرير مصيره البحري.

التوظيف لم يتوقف عند البنية العسكرية، بل امتد إلى أدوات سياسية وأمنية محلية. جرى تمكين قوات الحزام الأمني والنخب والعمالقة لتكون أذرعا تحمي هذه المصالح على الأرض، فيما تولى المجلس الانتقالي توفير الغطاء السياسي والإعلامي. وبذلك صار الملف العسكري متداخلا مع الملف الخدمي والاقتصادي، حيث عطلت الموانئ والمطارات أو وظفت بما يخدم الاستراتيجية الإقليمية بدل احتياجات السكان. هذا التداخل ولد حالة استنزاف للمجتمع المحلي، الذي وجد نفسه محاصرا بين عسكرة المدن وتدهور الخدمات واستغلال موارده دون عائد حقيقي عليه.

 يمكن القول ان منظومة النفوذ الاماراتي تعمل كشبكة واحدة ذات أدوار متخصصة، فالانتقالي يشكل الواجهة الجنوبية السياسية والأمنية، وطارق والمؤتمر يمثلان واجهة الشمال الساحلي الإدارية والإعلامية، والعمالقة تتحرك كقبضة ضاربة لإعادة ضبط الميدان، فيما تتولى النخب والحزام إدارة المدن والمنافذ بمنطق أمني يضمن انسياب اللوجستيات ويمنح صانع القرار قدرة الإنكار المعقول. 

لكن بنية الشبكة تحمل مخاطر بنيوية لا يمكن تجاهلها، فتعدد المراكز داخل الانتقالي بين جناح يميل إلى المؤسسية وآخر ميداني متشدد يخلق احتكاكات داخلية ويعقد مسألة الانضباط على المدى الطويل، كما أن شرعية الأمر الواقع تبقى منقوصة وتصطدم بالقانون الدولي وبمبدأ وحدة اليمن، وهو ما يثقل الكلفة الحقوقية والدبلوماسية ويضعف هامش المناورة. عسكرة المدن وإدارة الخدمات بمنطق أمني يراكم احتقانا اجتماعيا واقتصاديا ويهدد رأس المال السياسي لدى السكان المحليين، فيما يظل خطر تحول كل ذراع إلى مركز قرار مستقل قائما كلما تضخم رصيده المالي والميداني وتوسعت شبكاته المحلية.

في المحصلة تبدو الإمارات وقد انتقلت من نموذج القوات المتمركزة إلى نموذج الشبكة الوكيلة التي تعمل بالمال واللوجستيات والاستخبارات والقواعد أكثر مما تعمل بخطوط الجبهات.

يمنحها هذا التحول غطاء سياسيا وحقا فعليا في التعطيل داخل مؤسسات الدولة، ويؤمن لها حراسة عملية للممرات والموانئ من باب المندب حتى بحر العرب من دون تمركز مباشر، ويفتح لها ميادين التأثير عبر الحسم الموضعي والإدارة والخدمات والإعلام. لكن ثمن هذه المعادلة يتمثل في شرعية مهتزة وملف حقوقي ثقيل وتوازنات إقليمية متناقضة، ولا سيما في الشرق حيث تتزاحم الرعايات وتتقاطع المصالح. هكذا تعمل «دولة الظل» على اليابسة و«حارس الممر» على الماء، فيما تبقى استدامة النفوذ مرهونة بقدرتها على ضبط الوكلاء وتخفيف الكلفة الاجتماعية والقانونية وتحويل مكاسب الشبكة إلى ترتيبات حكم قابلة للحياة وهذا ما لا يمكن توقعه من الدور القائم على اللصوصية ولعب دور شرطي منطقة بلا سقف اخلاقي، يغلب مصالحه على مصالح ادواته.

مقالات

اعتقال المحامي عبد المجيد صبرة وتداعيات الحرب

قبل يومٍ من احتفال شعبنا بالعيد الوطني الثالث والستين لثورة سبتمبر المجيدة، أقدمت السلطة في صنعاء على موجة اعتقالات طالت الكثيرين، ومنهم المحامي عبد المجيد صبرة؛ حيث هجم رجال الأمن على مكتبه، وصادروا بعض المقتنيات الخاصة به، واقتيد إلى جهة مجهولة.

مقالات

الجمهوريون المستجدون: جمهوريو الضرورة

حين نغوص في تحليل التيارات السياسية والاجتماعية في اليمن، نجد أنفسنا أمام مشهد مزدوج: من جهة، تاريخ طويل من الانتماءات الفكرية والسياسية المتناقضة، ومن جهة أخرى، حراك جديد فرضته ظروف استثنائية، لا سيما صعود جماعة الحوثي كقوة إمامية جديدة.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.