مقالات

(دليل السراة) لمصطفى راجح.. خارطةُ طريقٍ تُعيدُ اليمنيينَ إلى ذواتِهم

26/07/2025, 06:48:02

من أهمِّ سماتِ الكتابةِ بوصفِها نشاطًا حضاريًّا إنسانيًّا؛ أنَّها الأكثرُ قدرةً على تصويرِ وقائعِ حياتِنا، ورصدِ تحوُّلاتِ أفكارِنا، وتتابُعِ أطوارِنا، والغوصِ إلى أعمقِ ما فينا، والتأشيرِ على ما وراءَ كلِّ فعلٍ من دوافعَ وأسرار، وما تنطوي عليهِ الدوافعُ والأسرارُ من دلالاتٍ قد تتباينُ حدَّ التقاطع، أو تتقارَبُ حدَّ التماثُل، لكنها في كلِّ الأحوالِ تُشبهُ المرآةَ العاكسةَ لما نحنُ عليه، أو لما يجبُ أن نكونَ عليه.

ومنذ عرفَ الإنسانُ الكتابةَ، ازدادت شهيّتُه للحياةِ؛ لقد امتلكَ أكبرَ الأدلةِ على وجودِه، ومن خلالِ قدرتِه على استعادةِ ماضيه، صارَ بوسعهِ أن يُلهمَ نفسَه باستمرارٍ، أن يتجدَّدَ من خلالِ ذاكرتهِ، وأن يُحقِّقَ وعيًا نافذًا بنفسِه، ويُعيدَ لها التوازنَ كلّما اختلَّ توازنُ الواقعِ المُحيطِ بها.

ولا فرقَ في ذلكَ بين الفردِ والمجموعِ، بين تفكيرِ الكاتبِ في ذاتِه كوجودٍ خاصٍّ، أو تفكيرِه بضميرِ الجماعةِ؛ ففي كلِّ الأحوالِ سيقومُ بتخليقِ شبكةٍ من الرموزِ والأفكارِ، ثم يُغلِّفُها بشغفِ النوستالجيا، ويجعلُها تتوهَّجُ مُشكِّلةً خارطةَ طريقٍ تقودُه إلى اكتشافِ ذاتِه من جديدٍ؛ ومن ثمَّ تحقيقِ تموضعٍ يُتيحُ له أن يُعيدَ تعريفَ وجودِه مرّةً أخرى، وهذا بالضبطِ ما فعلهُ مصطفى راجح في كتابِه (دليل السراة)، الصادرِ قبلَ أيامٍ عن مؤسسةِ أروقةَ للدراساتِ والترجمةِ والنشرِ في القاهرة، وهو - في رأيي - يُمثِّلُ بصمةً مميَّزةً، بل قيمةً مُضافةً وحقيقيّةً للمشهدِ الثقافيِّ اليمنيِّ والعربيِّ.

(دليل السراة) يُعدُّ دليلًا واضحًا على الكيفيّةِ التي يمكنُ أن يتجسَّدَ من خلالها الشغفُ والتوهُّجُ العاطفيُّ والمعرفيُّ لدى كاتبٍ ما، وعلى الكيفيّةِ التي تتحوَّلُ بها كلُّ مادّةٍ يكتبُ عنها إلى تجربةٍ شخصيّةٍ يعيشُها بكلِّ جوارحِه. الكتابُ - بمثلِ ما يُلقي الضوءَ على جملةٍ من المواضيعِ والشخصيّاتِ الأدبيّةِ والفنيّةِ التي شكَّلتِ الوجدانَ اليمنيَّ - يُلقي الضوءَ أيضًا على الطبيعةِ الوجدانيّةِ التي يتمتَّعُ بها مؤلِّفُه، ويُسلِّطُ الضوءَ على قوّةِ التحامهِ بمفرداتِ الهويّةِ الثقافيّةِ اليمنيّةِ.

الهويّةُ الثقافيّةُ اليمنيّةُ في (دليل السراة) تتحوَّلُ إلى تجربةٍ ذاتيّةٍ وعاطفيّةٍ، لكنها لا تنفصلُ عن وعيٍ حادٍّ وعميقٍ بما يُريدهُ المؤلِّفُ؛ فالهدفُ هو إعادةُ استكشافِ جوهرِ الروحِ اليمنيّةِ؛ ذلكَ الجوهرُ الذي يتعرَّضُ لخطرِ الغيابِ والنسيانِ، جرَّاءَ الحربِ وويلاتِها وما نتجَ عنها من تمزُّقاتٍ، وما أفرزتهُ من مفاهيمَ وممارساتٍ تُمثِّلُ تهديدًا عبثيًّا له.

تلكَ الثيمةُ الأساسيّةُ تجعلُ مجموعةَ الفصولِ والمقالاتِ التي يتألَّفُ منها الكتابُ تتَّصلُ بخيطٍ جامعٍ يصعُبُ معه الفصلُ بينها؛ فهي - رغمَ تنوُّعِ موضوعاتِها - تتلاقى عندَ نقطةٍ محوريّةٍ، هي الهويّةُ الثقافيّةُ اليمنيّةُ كما تتجلَّى في الفنِّ والأدبِ، ثمّ هي - في مجموعِها - تعكسُ رؤيةً شخصيّةً وتأمليّةً، يهدفُ المؤلِّفُ من خلالها إلى إحياءِ الوعيِ الجماليِّ والثقافيِّ عندَ اليمنيّين.

وثَمَّةَ ناحيةٌ أخرى تُعزِّزُ إيجابيّاتِ (دليل السراة)، بوصفِه اشتغالًا إبداعيًّا، ثقافيًّا وفكريًّا يمتلكُ بُعدًا ذاكراتيًّا، أعني احتشادَ الكتابِ برصيدٍ وافِرٍ من المحمولاتِ الثقافيّة؛ التي تُشكِّلُ مرجعيّاتٍ تتناسجُ بها موضوعاتُه، فهو - انطلاقًا من نظرتِه إلى الفنِّ والأدبِ بوصفِهما ملاذًا ومصدرَ قوّةٍ في مواجهةِ التشظّي والضياعِ والخرابِ - يُسلِّطُ الضوءَ على دورِ المبدعينَ اليمنيّينَ من شعراءَ وروائيّينَ وفنّانينَ في تشكيلِ الوعيِ الجماليِّ، وتثبيتِ الانتماءِ للهويّةِ الثقافيّة.

وانطلاقًا من هذهِ الرؤيةِ المحوريّةِ، تتوزَّعُ موضوعاتُ الكتابِ، وتتعدَّدُ مرتاداتُه؛ من البحثِ عن أصولِ الفنِّ الحُمينيِّ، إلى المناهلِ المختلفةِ للأغنيةِ اليمنيّةِ، ومن وجعِ الكتابةِ إلى السفرِ عبرَ الكتبِ، ومن البردونيِّ كرؤيةٍ تمتلكُ أبعادَها في دواخلِنا، إلى المقالحِ الذي استمرَّ نصفَ قرنٍ يدقُّ على (النغمةِ اليمنيّةِ نفسها بتنويعاتٍ إبداعيّةٍ لا حصرَ لها)، إلى أحمدَ قاسمَ دماجَ المُنحازِ دائمًا إلى (صفِّ المهزومين، مع الهامش، مع المُقصَيين، مع المقهورين والفقراء المُستضعفين)، إلى محمدِ مرشدِ ناجي الذي يُشبهُ (موجةً توزَّعت في أثيرِ هذهِ الأرض)، إلى الحارثي (الذي يجولُ بنا في أعماقِ تاريخِ الأغنيةِ اليمنيّةِ)، إلى عبدِ الباري طاهر الذي يستمدُّ حضورَه من (وقوفِه على الأرضِ بقدمينِ لا تعرفانِ التعبَ)، أو هاشمِ علي الذي يبدو كـ(نوعٍ نادرٍ من البشرِ تختارُه عنايةٌ ما ليرتقيَ إلى مستوى الفردِ الذي يتجسَّدُ فيه الكلُّ)، أو أيوبِ طارشٍ الذي تنطقُ الطبيعةُ بصوتِه (وتتكلمُ اليمنُ عبرَ نغماتِه)، أو عليِ الآنسي بوصفِه (هيامًا متواصلًا للبحثِ عن نغمةِ روحِه، واكتشافِ اللحنِ القادرِ على حملِ إحساسِه المُكثَّفِ)، إلى عبدالرحمنِ الغابري كمرجعٍ لإرشيفٍ فوتوغرافيٍّ يمنيٍّ نادرٍ. وهذهِ المواضيعُ والأسماءُ مجرّدُ عيّنةٍ من هذا الاحتدامِ الشغوفِ.

المحمولاتُ الثقافيّةُ التي نشيرُ إليها يتمُّ إغناءُ مدلولاتِها باستدعاءاتٍ واسعةٍ لمقولاتٍ فلسفيّةٍ وفكريّةٍ عالميّةٍ، والملاحظُ أنَّ استدعاءاتِ مصطفى راجح لأقوالِ الفلاسفةِ والمفكّرينَ تصبُّ كلُّها في تدعيمِ ثيماتِ الكتابِ وأفكارِه المحوريّةِ. على سبيلِ المثالِ، يقتبسُ في نهايةِ المقدّمةِ قولَ ميلان كونديرا: (الخطوةُ الأولى في تصفيةِ شعبٍ ما هي محوُ ذاكرتِه. تدميرُ كتبِه وثقافتِه وتاريخِه. ثمَّ اطلبْ من شخصٍ ما أن يكتبَ كتبًا جديدةً، وأن يصنعَ ثقافةً جديدةً، وأن يخترعَ تاريخًا جديدًا. وبعدَ فترةٍ قصيرةٍ سوف تبدأُ هذهِ الأمّةُ في نسيانِ ما هي عليهِ وما كانت عليهِ؛ صراعُ الإنسانِ ضدَّ السلطةِ هو صراعُ الذاكرةِ ضدَّ النسيان).

هذا المُقتبسُ سيتمُّ التأكيدُ عليهِ من خلالِ اقتباساتٍ أخرى، فحينَ يستدعي ما عُرفَ بـ(مطرقةِ نيتشه) بوصفِها أسلوبًا في الكتابةِ يتغيَّا إيقاظَ النائمينَ، وتكسيرَ الأصنامِ، والتأشيرَ على مواضعِ الخللِ، فهو إنّما يُؤكِّدُ على الصراعِ من أجلِ إيقاظِ الذاكرةِ ومحاربةِ النسيانِ، وتعزيزِ قوى حفظِ النوعِ.

ومثلَ ذلكَ مقتبساتُه من أمثالِ (النَّفري، وبيسوا، ودافنشي، ويوجين أونيسكو)، وهي في سياقاتِها تتجاوزُ الهدفَ التوثيقيَّ؛ لأنَّ راجحَ يدمجُها بسلاسةٍ في النسيجِ النَّصيِّ لمادتِه، وحينَ نقرأُها تبدو لنا كجزءٍ لا يتجزّأُ من فلسفةِ سرديّتِه؛ وهو بذلكَ يُحوِّلُ المُقتبسَ إلى حيلةٍ فنيّةٍ تُضفي على المكتوبِ عُمقًا، وتمنحهُ بُعدًا عالميًّا، بقدرِ ما تُشيرُ إلى ثقافتِه واطِّلاعِه الواسعِ على الفكرِ الإنسانيِّ، وتَعكِسُ رغبتَه في ربطِ التجربةِ اليمنيّةِ بالتجربةِ الإنسانيّةِ في مداها الواسعِ، وبالبُعدِ المشتركِ بين كلِّ بني الإنسانِ.

***
وإذا أردنا قراءةَ (دليل السراة) بعيدًا عن السعيِ وراءَ المعنى المركزي، أو التركيزِ على القصدِ الأساسيِّ الذي بناه راجح عليه، بعبارةٍ أخرى: إذا رغبنا في تفكيكِ البُنى التي تقومُ عليها اشتغالاتُ الكتاب، من خلالِ البحثِ عن الثنائياتِ الضديّةِ، والهوامشِ، والغياباتِ، والأثرِ الذي تتركه الكلماتُ، فيمكننا القولُ إنّ مادّةَ الكتابِ تتأسّسُ على ثنائياتٍ ضدّيّةٍ أساسيةٍ، لكنَّ التفكيكَ لا يهدفُ إلى إثباتِ أنَّ أحدَ طرفَي الثنائيةِ يتفوّقُ على ضدّه، أو يبدو أصلًا له، بل يهدفُ إلى بيانِ كيفيّةِ تداخُلِ هذهِ الثنائياتِ وتقاطُعِها وتبادُلِ الأدوارِ بينها.

أوّلًا: ثنائيةُ اليمنِ الجميلِ الذي يكنّي عنهُ الكتابُ بالهويّةِ الثقافيّةِ والفنيّةِ، مقابلَ اليمنِ الممزّقِ الذي يكنّي عنهُ الكتابُ بالخرابِ والتشظّي والغيابِ. يصرّحُ مصطفى راجح في المقدّمةِ بأنَّ الكتابَ (لا يُحدِّقُ في الهاويةِ)؛ لكنّه (يعودُ إلى أجملِ ما فينا)، وهو بذلكَ يضعُنا أمامَ ثنائيةٍ ضدّيّةٍ طرفُها الأولُ (الهاوية، والجحيم، والخراب)، وطرفُها الثاني (الجمال، والروحُ العصية، والأمل).

وطبعًا، فإنَّ (عدمَ التحديقِ في الهاويةِ) هو شكلٌ من أشكالِ تأكيدِ وجودِها، وتأكيدِ تأثيرِها على ما يتمُّ إنتاجُه من جمالٍ. راجح يُؤكّدُ بأنَّ الحديثَ عن إحياءِ الهويّةِ ضرورةٌ وجوديّةٌ في (اللحظاتِ القاتمةِ، حين يُهدّدُ الخرابُ كلَّ شيءٍ)، ومعنى ذلكَ أنَّ الخرابَ ليسَ غيابًا مُطلقًا، وإنّما قوّةٌ فاعلةٌ تُولِّدُ الحاجةَ إلى الجمالِ. ومعَ تأكيدِنا أنَّ مفهومَ الجمالِ في الكتابِ واسعٌ جدًّا، وأنَّ فنَّ الغناءِ ليسَ إلّا مفردةً من مفرداتِه، إلا أنّنا يمكنُ أن نستشهدَ على قوّةِ توليدِ الخرابِ للجمالِ بما حدثَ لليمنيينَ في سنواتِ الحربِ من شغفٍ غيرِ مسبوقٍ بسماعِ الغناءِ؛ لذلك يمكنُنا القولُ إنَّ جمالَ الفنِّ كما أحسسنا به في سنواتِ الحربِ يُعدّ أثرًا للخرابِ الذي نحاولُ مقاومتَه به، لا وجودًا مستقلًّا عنه.

ثانيًا: ثنائيةُ الفنِّ والأدبِ بوصفِهما حضورًا، مقابلَ النسيانِ والمحوِ بوصفِهما غيابًا. يقتبسُ مصطفى كلامَ ميلان كونديرا عن صراعِ الذاكرةِ ضدَّ النسيانِ، والذاكرةُ هنا تتجلّى في روائعِ الفنِّ والأدبِ اليمنيِّ، وذلك هو الحضورُ المرغوبُ للذاكرةِ؛ لكنَّ ذلكَ يعني الاعترافَ بهيمنةِ النسيانِ على واقعِنا، فالنسيانُ هو الغيابُ، والغيابُ هو ما لم يحضرْ في الكتابِ، ما لم يتناولهُ الكتابُ، وليسَ معنى هذا أنَّ الكتابَ يُمارسُ التغييبَ، بل لأنَّ الذاكرةَ - في كلِّ الأحوالِ - ليستْ حضورًا مكتملًا، وإنّما تذكّرٌ يتضمّنُ دائمًا إمكانيّةَ النسيانِ، أو يتضمّنُ إعادةَ تشكيلٍ لما يُفترضُ أنَّه كان، وذلك هو نفسُه ما يُحفّزُنا دائمًا على الكتابةِ. يصفُ مصطفى الكتابةَ بأنّها (جهازُ تنفّسٍ اصطناعيٌّ)، ووسيلةٌ للبقاءِ، وذلك صحيحٌ تمامًا؛ فما من وسيلةٍ أفضلَ للحفاظِ على الحضورِ، وعلى الذاكرةِ والهويّةِ من الكتابةِ.

وعندَ هذهِ النقطةِ لا بدَّ من التأكيدِ على أنَّ اللغةَ كوسيطٍ تظلُّ دائمًا غيرَ مكتملةٍ؛ وعندما يقتبسُ مصطفى راجح عبارةَ النّفري (كلّما اتّسعت الرؤيةُ، ضاقت العبارةُ)، فإنّه يضعُ اللغةَ (العبارةَ) موضعَ الاتهامِ بالقصورِ، وهذا صحيحٌ؛ فالواقعُ أنّه يستحيلُ على الكاتبِ - أيِّ كاتبٍ كانَ - أن يقولَ كلَّ ما يودّ قولَه، لهذا يُواصلُ الكتابةَ طوالَ الوقتِ، وما لا يقولُه الكاتبُ في هذهِ المقالةِ، يمكنُ أن يقولَه في مقالةٍ أو مقالاتٍ أخرى، وما لم يكتبْه في هذا الكتابِ يمكنُ أن يكتبَه في كتابٍ آخرَ أو كتبٍ أخرى قادمة، وما لم يستطعِ التعبيرَ عنهُ بهذهِ الصيغةِ يمكنُ أن يُعبّرَ عنهُ بصيغةٍ أخرى، وهذا ما يسمّيه التفكيكيّون بـ(التأجيلِ والاختلافِ)، فالمعنى الذي لا يكونُ حاضرًا بشكلٍ ما في هذهِ الكتابةِ؛ يتأجّلُ ويَسفِرُ عن نفسِه في سياقٍ آخرَ يُكمِّلُه، حتى وإن اختلفَ عنهُ.

على سبيلِ المثالِ: المعنى الكلّي للهويّةِ اليمنيّةِ، أو الجمالِ اليمنيّ، لا يتمُّ التعبيرُ عنهُ في (دليل السراة) دفعةً واحدةً، ولا يظهرُ بصيغةٍ ثابتةٍ ونهائيّةٍ، لكنَّه يتشكّلُ عبرَ موادِّ الكتابِ، ويتبلورُ عبرَ تراكيبَ من النصوصِ، والأغاني، وسِيَرِ الشخصيّاتِ الأدبيّةِ والفنيّةِ، والمقارناتِ بين الفنّانين؛ حيثُ كلُّ وصفٍ أو سِمةٍ أو واقعةٍ أو أغنيةٍ أو قصيدةٍ تردُ بوصفِها أثرًا يُسهِمُ في تكميلِ المعنى الكلّي للهويّةِ اليمنيّةِ والجمالِ اليمنيِّ.

***
جانبٌ آخرُ من جوانبِ (دليل السراة) يمكنُ الحديثُ عنه؛ ذلكَ هو العلاقةُ الحسيّةُ والفكريّةُ التي تنشأُ بينهُ وبين القارئِ، الشعورُ بمتعةِ التلقّي، وهي تعودُ إلى سببينِ؛ أوّلهما: تماسكُ مادّةِ الكتابِ وسلاسةُ أسلوبِه، وثانيهما: تعرُّفُ القارئِ على ذاتِه في الكتابِ.

كتبَ مصطفى راجح كتابَهُ بطريقةٍ تتلاءمُ ثقافيًّا ووجدانيًّا مع احتياجاتِ نفسِه؛ واحتياجاتُ نفسِه هي احتياجاتُ نفوسِنا أيضًا، وجميعُنا نجدُ لذّةً كبيرةً في التأكيدِ على هويّتنا الثقافيّةِ وتراثِنا الفنيِّ والأدبيِّ، لكنّ راجح فعلَ ذلكَ بطريقةٍ لامستْ - برهافةٍ بالغةٍ - وَترَ انتمائِنا الحسّاسِ؛ أمّا سلاسةُ الأسلوبِ وشاعريّتُهُ ولغتُه التي تَقطُرُ شغفًا، فهي من أهمِّ عواملِ نجاحِ الكتابِ؛ فحتّى لو كانَ القارئُ على معرفةٍ ببعضِ الأسماءِ أو الموضوعاتِ الواردةِ في الكتابِ، فإنَّ أسلوبَ تناولِها بهذا القدرِ من الشغفِ وربطِها بالهويّةِ وبضروراتِ وجودِنا في هذهِ اللحظةِ الصعبةِ؛ يجعلُ القارئَ يتلقّاها بنشوةٍ ومتعةِ الاكتشافِ الأوّلِ؛ بمعنى أنَّ الأسلوبَ المُميَّزَ كثيرًا ما يتحوّلُ إلى رؤيةٍ جديدةٍ للمألوفِ؛ وهو بذلكَ يُجدّدُ صِلتَنا به، ويَشحنُهُ بدلالاتٍ لا عهدَ لنا بها.

إضافةً إلى ذلك، فإنَّ الكتابَ - بارتكازهِ على هدفٍ واضحٍ - هو إحياءُ الهويّةِ الثقافيّةِ اليمنيّةِ ومقاومةُ النسيانِ؛ يمنحُ القارئَ إحساسًا بالشراكةِ، وذلكَ يُعزّزُ متعةَ القراءةِ ويُقوّي الشعورَ بنشوةِ التلقّي؛ والقارئُ هنا يدخلُ مع الكتابِ في تجربةٍ تتّسمُ بالتحدّي، فهو يهتزُّ ويتغيّرُ؛ لأنّهُ يشعرُ بالفارقِ، يشعرُ أنّهُ يختبرُ شيئًا ما يتجاوزُ التوقّعاتِ؛ مثلًا: مواجهةُ الألمِ والخرابِ بجماليّةِ اللغةِ؛ هذا أمرٌ يَخلُقُ عندَ القارئِ نشوةً غريبةً، إنّهُ يُلامِسُ الألمَ ويتجاوزُهُ بالفنِّ.

من جهةٍ أخرى، نجدُ أنَّ التأمّلَ الفلسفيَّ - الذي يُمثِّلُ سِمةً مهمّةً من سماتِ الكتابِ - هو أيضًا من أهمِّ جَواذبِ القارئِ؛ يتأمّلُ مصطفى في الكتابةِ ومعاناتِها، وفي حيواتِ الكتّابِ أنفسِهم، كما تتحوّلُ مقارباتُهُ للإبداعاتِ الغنائيّةِ والتشكيليةِ، والظروفِ التي تُرافِقُ عمليّاتِ الإنتاجِ نفسِها إلى مِيدانٍ واسعٍ للتأمّلِ. في مادّة (عن الكتابة)، تتمُّ مقاربةُ علاقةِ الكتابةِ بالمعاناةِ، ويتمُّ ربطُ الإبداعِ بالنزيفِ الوجوديِّ والألمِ، وفي (المسّاح المُرمَّز بالألم) يتمُّ عقدُ مشابهةٍ بين شكلِ المسّاحِ وهيئتِه ولبسِه وطبائعِ سيرتِه؛ وبين أسلوبِه في الكتابةِ الذي يتحوّلُ إلى (ترجمةٍ لذاكرةِ عينينِ تَمسَحانِ تفاصيلَ المدينةِ، وسحناتِ ناسِها، وإيحاءاتِ معيشتِهم اليوميِّ).

ويتّسعُ التأمّلُ في (هاشم علي .. فنّانٌ مُلهِمٌ ومُعلِّمُ حياةٍ)، وذلكَ من خلالِ الربطِ بين لغةِ لوحاتِه ولغةِ التصوّفِ، فـ(السِّمةُ الأساسيّةُ هي التغيّرُ الدائمُ والحركةُ والتدفّقُ دونما ثباتٍ أو انقطاعٍ، كلُّ شيءٍ يرتبطُ مع كلِّ شيءٍ، ولا يمكنُ فهمُ أيّ جزءٍ فيه دونَ النظرِ لترابطِهِ مع الكونِ بمجملِهِ).

أمّا في (عالم عبد الكريم الرازحي)، فيتمُّ الربطُ بين ثراءِ وتنوّعِ ونوعيّةِ المُنجَزِ الذي قدّمَهُ، وبين قدرتِه حياتيًّا على التّحلّقِ (فوق ثِقلِ الحياةِ)، وفي (أمير صنعاء ونشوتِها الفاتنةِ)، يتأمّلُ في أسلوبِ الفنّانِ أحمدَ السنيدار: (ندركُ بصمةَ صنعاء من صوتِهِ العذبِ، لا نحتاجُ بعدها إلى معرفةِ تفاصيلِ متى بدأَ الغناءَ وبمَن تأثّرَ).

هذا النوعُ من الاجتراحاتِ الكتابيّةِ ينقُلُ عمليّةَ التلقّي ويُحوِّلُها إلى عمليّةِ تفكيرٍ حقيقيٍّ؛ لأنّ الأفكارَ التي يَطرحُها الكاتبُ تُتحدّي المألوفَ، وتدفعُ القارئَ إلى منطقةِ التأمّلِ الوجوديِّ، وذلكَ من الطموحاتِ العزيزةِ عندَ أيِّ كاتبٍ.

ذلكَ يُعيدُنا إلى التّذكيرِ بأنّ طبيعةَ الكتابِ - التي يَصفُها مصطفى راجح بـ(دليلٍ وجدانيٍّ) - تهدفُ إلى إحياءِ الهويّةِ الثقافيّةِ الوطنيّةِ لليمنِ، ومواجهةِ النسيانِ؛ بمعنى أنَّ الكتابَ يَتقصّدُ إثارةَ استجابةٍ معيّنةٍ لدى القارئِ؛ لذلك فإنَّ مصطفى كانَ ناجحًا وهو يُقدّمُ الفنَّ والأدبَ بوصفِهما خلاصًا في زمنِ الخرابِ واليأسِ، ويُقدّمُ الكتابةَ بوصفِها وسيلةً للبقاءِ والاتصالِ في زمنِ الانقطاعِ؛ ويُلفتُ نظرَ القارئِ إلى مفارقةٍ مُلهِمةٍ، وهي أنَّ (عديمَ الفائدةِ)، والمقصودُ هنا (الفنَّ)، هو في الحقيقةِ الأكثرُ فائدةً للروحِ؛ وكذلكَ تأكيدُهُ على أنَّ المعاناةَ يمكنُ أن تكونَ دافعًا للإبداعِ والعمقِ الفكريِّ، لا عاملًا مُثبِّطًا؛ لذلكَ يَميلُ راجح إلى ربطِ قوّةِ الأثرِ الأدبيِّ بالأحاسيسِ العاطفيّةِ على نحوِ ما كانَ يفعلُ نيتشه. 

***
أخيرًا يمكنني أن أتحدّث عمّا لا تؤدّيه الصّفة؛ لطالما قلتُ إنَّ مصطفى راجح فنّانٌ ضلّ طريقَه، ودائمًا كنتُ أكرّرُ هذا كلّما صدح صوتُه في مقايلِنا؛ إنّه صوتٌ بالغُ العذوبةِ. أوّل معرفتي به؛ كنتُ أفكّر أنَّ ميزةَ الصوتِ الجميلِ التي يتمتّع بها؛ هي ما يجعلُ إحساسَه باللّحنِ أو بالصوتِ والموسيقى أكثرَ شفافيّةً وعمقًا، غير أنّي اكتشفتُ بعد ذلكَ أنَّ الرّهافةَ والشّغفَ سمتانِ من سماتِ شخصيّتهِ عامّةً، وأنّهما يحضرانِ في تفاصيلِ حياتِه كلّها.

في (دليل السراة) نكتشفُ أنَّ كلّ موضوعٍ يُمثّلُ قصّةَ شغفٍ عاشها مصطفى، حينَ يكتبُ عن فنّانٍ ما، يكونُ في الأصلِ قد سمعَه كثيرًا، إذ هو (سِمِّيعٌ) من الدّرجةِ الأولى، مع ذلكَ فهو يعيشُ حالةَ عصفٍ ذهنيٍّ بمجردِ أن يبدأَ التّفكيرَ في الكتابةِ، يختارُ أغانِيَه للمقيلِ، ويقودُ مثاقفاتِ الحاضرينَ في اتّجاهِ تجربتِه الفنيّةِ وأغانيه، وتتحوّلُ منشوراتُه على فيسبوك إلى تسجيلاتٍ صوتيّةٍ أو فيديوهاتٍ لذلكَ الفنّانِ، وبطبيعةِ الحالِ تترافقُ مع ذلكَ قراءاتٌ واسعةٌ عن اللّونِ الغنائيّ الذي يشتهرُ الفنّانُ به، وعن منابعِ موهبتِه وفضاءاتِ خصوصيتِه، وما يتميّزُ به.

وعندما يبدأُ الكتابةَ؛ يكونُ قد وصلَ إلى ذروةِ الاندماجِ في موضوعِه، يكونُ قد عاشهُ ليلًا ونهارًا، مع نفسِه ومع الآخرين، أمّا الكتابةُ فتكونُ بدمِ قلبِه، ودموعِ روحِه، وحريقِ وجدانِه، وثِمارِ معارفِه أيضًا، والكتابةُ عندَ مصطفى راجح تتّكئُ على فلسفةٍ وعلى معرفةٍ واسعةٍ، وبسببِ ذلكَ كلّهِ تتحوّلُ المادّةُ المكتوبةُ إلى عملٍ فنّيٍّ باذخٍ ومميّزٍ.

ذلكَ كلُّه كنتُ أعرفُه – كما أسلفتُ – لكنَّ قراءتي للكتابِ مطبوعًا خلالَ الأيّامِ الماضيةِ، كشفتْ لي أنَّ كمّيّةَ الشّغفِ الذي تَمتلئُ به كتاباتُ مصطفى أكبرُ بكثيرٍ ممّا كنتُ أعرفُ، شغفٌ يمتزجُ بتوقّدٍ ذهنيٍّ فارقٍ، وأسلوبٌ تتناسجُ فيهِ الشّاعريّةُ العذبةُ بقدرةٍ هائلةٍ على تحليلِ الظّواهرِ، والتأمّلِ في الحيواتِ والوقائعِ، والاهتداءِ إلى مفاتيحِ الطّبائعِ، بقدرِ تمتّعهِ بملكةِ النّقدِ والتحليلِ، وملكةِ تحويلِ كتابتهِ إلى كشوفاتٍ ساحرةٍ؛ المواضيعُ والشّخصيّاتُ، النّصوصُ والأغاني، اللّوحاتُ والصّور، كلُّها تتحوّلُ إلى وجودٍ ساحرٍ، اسمُه: الهويّةُ الثقافيّةُ والفنيّةُ لليمنِ.

الوجودُ النّصّيُّ الساحرُ الذي يخلقهُ مصطفى راجح؛ يلفتُنا بشكلٍ حاسمٍ إلى ضرورةِ الكتابةِ، وإلى المدى الذي يمكنُ أن تبلغهُ قوّةُ الكلمةِ، وهي تُعيدُ ترتيبَ أولويّاتِنا، ليسَ على مُرادِ الواقعِ ومعطياتِه، بل وفقَ معطياتِ الوجدانِ، وإلهاماتِ الذّاكرةِ، وتبجيلِ المفرداتِ التي تُمثّلُ جوهرَ فرادتِنا وخصوصيتِنا.

ثمّةَ شعورٌ بالاستنارةِ تعيشُه وأنتَ تقرأُ (دليل السراة)، والسببُ في ذلك أنَّ كتابتَه تمّتْ بمنطقِ الحياةِ؛ هناك عنصرٌ بطوليٌّ في الفكرةِ التي يتناولُها، وهناك عنصرٌ بطوليٌّ في الشّخصيّةِ التي يكتبُ عنها، وهناك عنصرٌ بطوليٌّ في الصّوتِ الذي يُحلّلُ سماتِه ويُقاربُ أثرَه وبصمتَه، وهناك عنصرٌ بطوليٌّ في اللّحنِ، وعنصرٌ بطوليٌّ في اللّوحةِ، وعنصرٌ بطوليٌّ في الصورةِ، أمّا ماهيّةُ هذا العنصرِ البطوليِّ، فهي تعبيرُهُ بقوّةٍ عن الهويّةِ الثقافيّةِ والفنيّةِ لليمنِ.

هذا النّوعُ من استراتيجيّاتِ ممارسةِ الكتابةِ، يُعيدُ تعريفَ مواقفِنا من ذاكرتِنا الثقافيّةِ والفنيّةِ، بقدرِ ما يدفعُنا إلى التعرّفِ على حقيقةِ هويّتِنا، ويَفتحُ أعينَنا على ما هو إنسانيٌّ وعميقٌ فينا.

أمّا سِمةُ الدّفءِ التي تتمتّعُ بها كتابةُ مصطفى راجح، وهي تُمثّلُ بُعدًا آخرَ في هذا الكتابِ، فإنّها مثلُ دويِّ السّحابةِ الذي ترتعشُ له الأرضُ قبلَ سقوطِ المطرِ، وكما تَعثُرُ الأرضُ على حياتِها بمجردِ سماعِ دويِّ السّحابةِ، نَعثُرُ نحنُ على الدّليلِ الروحيِّ والعاطفيِّ لوجودِنا، بمجردِ أن نُلامسَ دفءَ الشغفِ الوالهِ في (دليل السراة).

مقالات

الحوثي.. سيد المخدرات

برزت تجارةُ المخدرات كأداةٍ حوثيةٍ موازية، ذاتِ مردودٍ مزدوج: تمويلِ حربها العسكريةِ على البلد، وضربِ مجتمعِنا من داخله.

مقالات

اليمنيون كلهم شيعة

ما من أمةٍ أحبّت أقاربَ نبيّها كما فعل اليمنيون، حتى غدت المحبةُ طقسًا، والتقديسُ عقيدةً. ذلك الحبّ، الذي بقي من طرفٍ واحد، منح أسرةَ محمدٍ النبي ولايةً روحيةً، وامتيازًا اقتصاديًا، وحقًا مزمنًا في السلطةِ السياسية.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.