مقالات
حين تغض الحكومة الطرف عن ترويج الزبيدي للانفصال
فكرة الانفصال الجنوبي التي يروّج لها عيدروس الزبيدي ليست سوى انعكاس لسخافةٍ سياسية تحاول استدعاء الماضي بوهم البطولة، وإحياء جراحٍ لم تندمل بعد.
غير أن ما يثير القلق حقًا ليس الفكرة في ذاتها، وإنما القبول الصامت الذي تواجه به الحكومة المركزية هذا العبث المتنامي، وكأنها قد تخلّت عن مسؤوليتها التاريخية في حماية وحدة الأرض والهوية، وتركت البلاد فريسة لأوهام التشطير ومشاريع التقسيم التي تُغذّى من الخارج وتُبارَك من الداخل بصمتٍ مخزٍ، لكأنّ الانفصال مسألة شكلية لا تستحق المواجهة...!
الانفصال هو مشروع يستبطن نزع الاعتراف بوجود الدولة نفسها، وتفكيك بنيتها الرمزية والمعنوية. فعندما تتحول الشعارات إلى طقوس متكررة في الضالع والشعيب وعدن، ويُسمح للزبيدي أن يُكرّس فكرته في أذهان الجنوبيين دون أي ردعٍ أو مواجهة فكرية من الدولة – وهذا ما يحدث اليوم – فإننا لا نواجه "رأيًا سياسيًا"، بل نواجه حربًا ناعمة تمارسها حركة تمتلك خطة ومنهجًا وزمنًا لتحقيق غايتها.
كل دول العالم تسعى إلى ترميم وحدتها، وصهر تناقضاتها داخل هوية وطنية شاملة، إذ تعمل على ترسيخ فكرة الدولة باعتبارها الضامن الأسمى للوجود المشترك. أما في اليمن، فقد غدت الوحدة فكرة يتيمة، بلا راعٍ ولا خطاب، محاصَرة بين شعارات جوفاء وسلطة بلا مشروع.
الدولة التي لا تدافع عن وحدة أراضيها تفقد حقها الأخلاقي في البقاء، لأنها تتخلى عن جوهرها الرمزي، عن السبب الأول الذي وجدت لأجله.
هذه اللامبالاة تجاه التهديد الذي يمثله الخطاب الانفصالي تعني عمليًا القبول بانتهاء مفهوم الوطن ككلٍّ موحّد، وبدء مرحلة التذرر الوطني؛ لتتحول الجغرافيا إلى طوائف ومناطق ومشاريع صغيرة، كلٌّ منها يحمل خرائطه الخاصة ومشاعره الخاصة تجاه البقية.
أنا لا أدين الحراك الجنوبي، فلكل حركة سياسية حقها في التعبير والمطالبة، لكنني أدين العقلية الرسمية – الحكومة المركزية – التي تستهين بمصير الدولة، وتسمح بتحويل الجنوب إلى حاضنةٍ لتفكيك البلاد. الإدانة هنا ليست للزبيدي وحده، بل للحكومة التي تركته يتمدد، ويصنع أوهامه علنًا دون أن يجد من يردعه أو حتى يناقشه.
ما يفعله الزبيدي هو هندسة فكرية لهوية موازية، تتشكّل عبر لغة جديدة تتحدى الدولة في رمزها وسرديتها التاريخية. إنه لا يطرح مشروعًا سياسيًا فقط، بل يسعى إلى إقناع الجنوبي بأنه لا ينتمي إلى الكيان الذي يعيش فيه، بل إلى سردٍ آخر، ووطنٍ آخر، وتاريخٍ آخر.
وتلك هي أخطر مراحل الانقسام: حين يتحول الوعي الجمعي إلى أداة تفكيك ذاتي، ويصبح الناس وقودًا لمشاريع تتغذى على الإحباط والخذلان.
الخطأ الجوهري لا يكمن في فكرة الانفصال ذاتها – فهي في النهاية نتاج سياق سياسي مأزوم – بل يكمن في المركز الذي فقد إحساسه بالمسؤولية، وتنازل عن دوره الطبيعي كقلبٍ للدولة. الدولة لا تموت حين تُهزم عسكريًا، بل تموت حين تفقد إيمانها بنفسها، ولا ترى في وحدتها سوى شعارٍ إداريّ لا أكثر، وعندما تترك أطرافها تغرق في خطابٍ مضاد دون أن تطرح بديلًا جامعًا.
الوحدة لا تُصان بالقوة، بل بالمشروع الوطني العادل، بالمساواة، والكرامة، والمواطنة. وهذه المعاني غابت طويلًا، حتى صار الانفصال يبدو كخلاصٍ بديل.
سؤال على الهامش:
هل ما يجري اليوم هو خطاب انفصالي عابر كما يظن البعض؟
لا شك أن الجواب: لا. لأنه إعادة تشكيلٍ للوعي الجمعي، وترسيخ لفكرة زائفة مفادها أن الانفصال هو الخلاص، وأن الوحدة هي العائق. وتلك هي الكارثة الكبرى، حين يتحول المشروع السياسي إلى مشروع نفسي، يتغلغل في عقول الشباب والشارع، ويُصبح واقعًا معنويًا قبل أن يتحول إلى واقع جغرافي.
الوحدة كيانٌ يتجاوز الجغرافيا؛ ذاكرة، وتاريخ، ومصير مشترك. وإن صمتت الحكومة عن هذا المشروع، فإنها تشارك في جريمة تفكيك هذه الذاكرة، وتترك اليمن مكشوفًا أمام رياح من العبث... لا تعرف نهاية.