مقالات
جرّاح الأمل
مدهش ما يصنعه العقل اليمني الفذ، البروفيسور أبو ذر الجندي. في المدينة التي صارت عاصمة للضجيج، ثمة حلم ينمو وأمل يفرد جناحيه ليغمر تعز واليمن عموماً بأنّ تغيير المستقبل ممكن، لكنه يبدأ من الذات.
الاكتفاء بالشكوى من تعقيدات الواقع هو الوصفة الأسهل للاستسلام والاستمرار في طريق الضياع. ما ينجزه البروفيسور الشاب مع فريقه الطبي في مركز القلب والأوعية الدموية وزراعة الكُلى أشبه بمعجزة. هناك حرب سحقت كل شيء، بما فيها إرادة الناس، وهناك تعقيدات لا حصر لها، تبدأ من الصراعات الداخلية والمنافسات التافهة ولا تنتهي برغبات وأطماع الخارج.
لكن ذلك لم يكن ليُفْت في عضد جراح القلب والأوعية الدموية الذي قرر مع فريقه إجراء أهم عملية في تاريخ المدينة والبلاد: جراحة وإنعاش الأمل.
قرابة خمس سنوات من الكفاح والعمل المضني أثمرت مركزاً طبياً عملاقاً يُباهى به. كان مجرد مبنى فارغ من أي شيء باستثناء الاسم والكثير من الخواء الذي سيطر على الإدارات المتعاقبة، ثم صار مركزاً يكبر بالكثير من الدأب والجهد. بدأ بثلاث غرف لجراحة القلب والأوعية الدموية، ثم توسع لزراعة الكلى، وفي غضون أشهر قليلة سيكون الأول من نوعه في اليمن لزراعة الكبد بأيدٍ يمنية.
في مؤتمر الباحثين والخبراء اليمنيين بأسطنبول، الذي نظمته مؤسسة توكل كرمان، وقف جميع الحاضرين لتحية الدكتور أبو ذر وهو يلقي ورقته العلمية عن بُعد من داخل المركز. كانت الأرقام تتحدّث، وكان المنجز يشعل أفئدة الحاضرين حماسة وإعجاباً وإجلالاً، وكان تصفيق القلوب والأكف ساخناً. لم تكن ورقة علمية فحسب، بل مرافعة عن الأمل وعن ما يمكن لليمني أن يصنعه إذا قرر مخلصاً مغادرة مقعد المتفرّج.
في سيرة الدكتور أبو ذر الجندي ملامح القائد النموذج، الذي نفتقده بشدّة في هذه البلاد. ليس بالضرورة أن يكون القائد في السياسة؛ ففي كل مناحي الحياة ثمة قادة صقلتهم التجارب، وفي أنفسهم صفات جعلتهم ملهمين وجديرين بأن يتقدّموا الصفوف. أبو ذر أحد هؤلاء النادرين.
بدأت المسيرة العلمية للرجل قبل أكثر من 25 عاماً، طالباً بكالوريوس طب عام وجراحة في سان بطرسبورغ بروسيا. تخرّج عام 2003، ثم حصل على الماجستير في 2006، قبل أن يتوّج هذا الجهد بحيازة الدكتوراة عام 2009 في جراحة القلب والأوعية الدموية من الجامعة نفسه.
ما بعد الدكتوراة، زاول المهنة وعمل باحثاً في التخصص نفسه في تركيا عام 2014. هذا القسم النوعي من التخصصات الطبية كان قادراً على أن يحمل أي طبيب بعيداً إلى أي دولة تمنح المال والمكانة لهذا النوع من الكفاءات، لكنه عاد ليخدم في بلد أزماته وقياداته تصنع ألف عقبة في الطريق.
عندما اشتعلت الحرب، لم يفرّ أبو ذر كما فعل كثيرون من أقرانه والكثير من شاغلي الوظائف، بما في ذلك العسكر الذين تخلوا عن وظائفهم وهربوا من نداء الواجب والقسم. جعل الرجل من نفسه خلية نحل ووزع نفسه في مهام مختلفة: أعاد تشغيل مستشفى الثورة، جلب له الكثير من الدَّعم في أقسى ظروف الحاجة، بينما كانت تمطره المليشيات بالقذائف. لاحقاً شغل منصب عميد كلية الطب بجامعة تعز، وأسس في زمن الحرب كلية طب الأسنان وكلية الصيدلة، وسعى لتحويل مستشفى الثورة إلى مستشفى جامعي ليكون إلى جانب وظيفته مؤسسة أكاديمية تطبيقية، لكن العوائق كانت أكبر منه.
في هذه المعارك العظيمة، كان محافظ تعز الأسبق، الأستاذ علي المعمري، يقاتل إلى جانبه في جميع هذه المحطات، كما قال في "بودكاست مسند" مع الزميل فهد سلطان. كان المعمري، المحافظ الذي تقلد المنصب في أحلك أوقات الحرب وأسس كل ما يتعلق بالمحافظة من الصفر، هو الذي أعاده إلى الخدمة بعد أن كاد الإحباط أن يتمكن منه بسبب ظروفه الشخصية والعائلية.
في هذه المرحلة، كانت محنة المدينة تتجلى في الممسوسين بالمماحكات والكيد الرخيص؛ إذ لا يستطيع هؤلاء مواصلة العيش بدون ضرب فرشاة الألوان الحزبية في كل اتجاه. لقد قرر أبو ذر الرحيل أخيراً، وهو الذي رفض كل الإغراءات المالية الخارجية لمغادرة مدينته بداية الحرب. عمل في السعودية في أحد أهم مستشفياتها، وكانت هذه الرحلة ثرية علمياً وعملياً كما قال، نظراً للإمكانيات الهائلة، لكن قلب الجراح ظل يخفق معلقاً بمدينته.
في المستشفى الجمهوري بتعز، المؤسسة الحكومية التي عانت الإهمال في سنوات "الدولة"، كانت المباني هي أفضل ممتلكات المستشفى، وكان الكادر الطبي في أسوأ حالاته، وتضاعف الأمر مع الحرب.
في العام 2008، بنت الحكومة مركزاً اسمه للقلب، لكنه كان بلا قلب، لم يُجهز ولم يُبَنَ من الداخل. لأكثر من 12 عاماً، كان المستفيد الوحيد من المبنى هو جهة المقاولة التي شيدته، كما هو شأن معظم المرافق في البلاد.
كان ذلك "يجسّد مشكلة العجز الصحي في اليمن"، كما قال أبو ذر في ورقته العملية في مؤتمر الخبراء والباحثين.
أثناء الحرب، تعرّض المبنى المكوّن من خمسة طوابق للقصف على يد مليشيا الحوثي ودمّرت أجزاء منه، ثم جرى ترميمه. كان المبنى شاهداً على العجز.
لم يسبق لأي يمني ربّما أن قرأ الأهزوجة الشعبية المعروفة بدلالاتها الخاصة كما فعل أبو ذر. لقد رأى في التراث الشفاهي "يا بقرة صبي لبن" ليس مجرد نشيد للأطفال، بل انعكاساً لثقافة تدور في حلقة مفرغة من العجز والركون للسماء.
وكان عليه أن يكسر حلقة العجز في مركز القلب الفارغ من كل شيء بمبادرة قيادية لتشغيله: لا عيادات تعمل، لا تجهيزات عادية أو متخصصة من أي نوع. بدأ العمل في المركز مع طاقم بسيط في ثلاث غرف بالدور الأول في المبنى الكبير، بالكثير من الإرادة والقليل جداً من المتاح.
بحسب ورقة أبو ذر، بدأ العمل بالحالات المرضية السهلة بـ60 حالة، ثم جاء الدعم تباعاً من الداخل والخارج ببقية التجهيزات: أحدث جهاز قسطرة قلبية موجود في اليمن، ثلاثة أجهزة أشعة أولاً ثم جهاز إيكو، ثم خمسة أجهزة، وخمسة أجهزة تخطيط قلب. هكذا كان المرفق الصحي المهم يكبر، ثم صار مركزاً للقلب بالعيادات المختلفة، يستقبل يومياً ما بين 100 إلى 120 مريضاً. كان الطموح الذي يغمر قلب القائد الشاب ورفاقه أكبر. إلى جانب جراحة القلب والأوعية الدموية، صار المركز لزراعة الكلى، وبعد أربعة أشهر سيُجري أول عملية لزراعة الكبد في اليمن.
طوال السنوات الماضية، كانت الأرقام تحصي نفسها وتقدّم المركز كأحسن ما تكون السيرة: أنجز المركز أكثر من 220 ألف خدمة طبية للمرضى من جميع المحافظات اليمنية.
على مستوى العمليات، أجرى أكثر من 1200 عملية قلب مفتوح، وأكثر من 2000 عملية في الأوعية الدموية وأكثر منها عمليات قسطرة، كما أجرى 120 عملية زراعة كلى بنسبة نجاح بلغت 99%، وهي نسبة تضاهي أكبر المراكز المتخصصة في العالم.
كان الأطباء الذين بدأوا العمل في المركز خمسة، والآن أكثر من عشرين. هناك عدد كبير منهم من طلاب الدكتور أبو ذر في الكلية وهم كفاءات شابة، وعندما يتحدث الرجل عن المركز لا يتحدث عن نفسه بل عن الفريق، إذ يبدي اعتزازاً كبيراً بهم، باعتبارهم أساس النجاح الذي تحقق. قال لفهد سلطان في "بودكاست مسند"، بتواضع الرجل الممتلئ: "لقد تعلمت الكثير منهم".
تكمن قيمة أي قائد في حرصه على صناعة القادة، لا في احتكار القيادة وتكسير مجاديف الآخرين، وهذا ما يبدو عليه أبو ذر. يسعى الرجل لصناعة فريق من القادة في التخصصات المختلفة، وهو يحرص على اختيار أفضل الطلاب المبرزين ليكونوا إلى جواره. قبل فترة التقيته في القاهرة وتعرّفت إليه عن قُرب للمرة الأولى. كان برفقته عدد من الأطباء والممرضين من الجنسين أحضرهم دورة تدريبية لزراعة الكبد في "القصر العيني" بالقاهرة. هذه الطاقة الجبارة يجب أن تحصل على مكانها اللائق.
في هذه الفترة البسيطة، وفي ظل الظروف الصعبة، لم ينجز الرجل مستشفى للجراحة وزراعة الأعضاء من الصفر فحسب، بل صار صرحاً علمياً للتأهيل، وقد افتتح برامج للدراسات العليا في سبعة تخصصات طبية مرتبطة بجراحة القلب والكلى.
تأسست هذه القصة المُلهمة على فلسفة غيَّرت الوضع كلياً في المكان: مبادرة وقيادة الكادر الطبّي، التمويل الخيري بواسطة مؤسسة لرعاية مرضى القلب تحت إشراف شبكة من الشركات ورجال الأعمال، بالإضافة إلى الدعم الأجنبي المتوفر. أخيراً، صار المبنى الحكومي مستشفاً متخصصاً يعمل بدون أي كلفة تشغيلية حكومية.
مع ذلك، فإن "النزعة"، التي تشغل أوقات تعز بالكثير من التهريج، لن تترك المشروع يمر بلا جلبة. بدلاً من الاعتزاز بما يفعل، هناك من سعى لتحريك دعوى قضائية ضد الدكتور أبو ذر لأنه حوّل المبنى المهجور إلى مركز متخصص ووضع له خطة ليكون مركز القلب الأول في اليمن لكل اليمن عام 2030.
يزعمون أنه حوّل المستشفى الحكومي إلى خاص!
ربّما ستسري النشوة في عروقهم لو استمر مجرد مبنى تصفر في زواياه الريح، المُهم أن لا يعمل!
تلك ضريبة مزعجة ووقحة في بلد أدمن أبناؤه الصراعات الصفرية وانتظار ما سيفعله الآخرون.