مقالات
تعز... الوجه الذي كان يودّعنا!
لم يكن أيُّ مسافرٍ يطيب له السفر إلَّا من خلال مدينة تعز، أو أن تكون تعز آخرَ ما تقع عليه عيناه، يكحّلهما بها حتى تقرَّ نفسه في رحلة قد تطول أو تقصر، داخل اليمن أو خارجه.
وكانت تعز هي أول وجوه المدن التي يستقبلها اليمني أثناء عودته وإيابه، لكن اليوم لم تعد كذلك.
كان المسافر يختلس من وقته الثمين جداً لزيارة أسواقها العتيقة، وتعز القديمة التي امتلأ تاريخها بدُولٍ سادت ثم بادت، وبقيت شواهدها الحضارية العظيمة ملءَ السمع والبصر.
ولا ينسى المسافر إهداء أحبابه وأصحابه من فِرسِك وبَلَس ومشاقِر جبل صبر، ذلك الشيخ الذي يحتوي تعز والحالمين بها بحنان الأم والأب معاً، على اختلاف مشاربهم وأفكارهم وأحزابهم.
كانت تعز مهوى أفئدة الراحلين والقادِمين إليها.
كانت أرياف تعز تمدّ المدينة، والمدينة تمدّ اليمن بشبابٍ مثل الورد. وكان الجميع يتطلّعون إلى تحقيق أحلامهم وطموحاتهم لتنعكس خيراً على اليمن الكبير.
كانت وما زالت تعز المنهلَ الذي يمدّ اليمن الكبير بكل أسباب الحياة العقلية والعلمية والسياسية والثقافية والاقتصادية.
كانت تعز، وما زالت، وستظل... ولكن، ماذا حدث؟
عندما نعيد قراءة دور تعز ورجالها في مجمل تاريخ اليمن، نلاحظ أن هناك خللاً كبيراً يجب إصلاحه.
فمنذ مطلع القرن العشرين وحتى اليوم، تخرج تعز خاسرةً في كل المنعطفات التاريخية المهمّة، وتتحوّل إلى الجاني والمجني عليه معاً، وينعكس ذلك على كل أبنائها، ويكون السبب الخفي هم أبناء تعز أنفسهم.
عشر سنوات طويلة بائسة وتعز تدفع ثمنًا باهظًا لكل أدوارها الثورية والثقافية والإنسانية والاقتصادية والسياسية.
عشر سنوات ظالمة، وتعز محاصرة بأبشع حصار عرفه التاريخ البشري، وأبناؤها يتسوّلون رفع الحصار ممن يحاصرهم؛ لأنَّ من يحاصرك لن يفك الحصار، فإن فكه فسيكون وفقًا لشروطه، وإلاَّ ما حاصرك في الأصل.
هذا حصار ظالم لن يتمّ الخلاص منه والفكاك إلاّ بالطرق والوسائل التي تعرفها الأمم والشعوب الحرّة.
لكن، ماذا يفعل أبناء تعز؟
الفساد ينخر كل شيء
تعز بلا ماء
تعز بلا كهرباء
تعز بلا طُرق
تعز بلا مقلب نفايات
بل تحوّلت هي إلى مقلب نفايات للفاسدين العاجزين عن حلّ مشكلة واحدة اسمها "الماء".
تعز نفسها تقترب من أن تتحوّل إلى مكب نفايات، كما أثبت تقرير صحفي استقصائي حول مكبّ الضباب، الذي كان وادياً يتغنّى به الشعراء، ثم أصبح إلى ما هو عليه الآن.
بلا دولة حقيقية، بلا عدالة، بلا قانون أو نظام، بلا أحزاب شجاعة...
تعز، عاصمة الدولة الرسولية، تعز العتيقة التي ما زالت، وتاريخها شاهد عيان على أنها كانت أمَّ المدن، والمدينة التي كان المسافرون يضبطون ساعاتهم البيولوجية على توقيتها، وشروق شمسها وغروبها، ويضبطون مواعيدهم (رحيلهم وعودتهم) على مقدار ما شعروا به من متعة مصافحة جبالها وتلالها وتبابها وقباب المدينة القديمة ومآذنها.
تعز كانت الترانزيت لليمنيين جميعاً شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً.
تعز كانت مفترق الطرق، وبدايتها ونهايتها.
أجيال متعاقبة ما زالت تعيش على وقع ما أحدثته مدينة تعز في نفوسهم ووجداناتهم وعقولهم، فماذا حدث لتعز التي أصبحت على ما هي عليه اليوم في وجدان أجيال جديدة خيبت الآمال حتى الآن؟
هل لثقافة السلاح دورٌ في انتقال المدينة، التي كانت توصف بمدينة الثقافة، إلى ما هي عليه الآن؟
لماذا تغوَّل الفساد على مدنية تعز، التي كانت يوماً ما "حالمة"، كما يُحبّ ويُحب الكثيرون تسميتها؟
لماذا أصبح الكثيرون من أبنائها يعملون ضدها، بدلًا من أن يكونوا عوناً لها ولسكانها؟
هل للحصار المضروب حولها دورٌ في تحوّلها العجيب الغريب؟
لماذا عجز القائمون على تعز عن تقديم نموذج يُحتذى به في بقية المُدن اليمنية؟