مقالات
اليمن في قلب حرب صامتة
لم تعد الحروب في هذا العصر تتطلب إعلانًا رسميًا أو دويًا للمدافع كي تبدأ، فقد دخل اليمن، ومعه عدد من دول الإقليم، في مرحلة "الحرب الصامتة"، أو ما يُعرف في الأدبيات الإستراتيجية الحديثة بحروب "الجيل الرابع والخامس"، حيث تُخاض المعارك دون جبهات تقليدية، بل عبر أدوات خفية تتمثل في الحصار الاقتصادي، الإغراق الإعلامي، تفكيك مؤسسات الدولة، وإعادة إنتاج الفوضى بأساليب غير معلنة.
ما نشهده في اليمن اليوم لم يعد مجرد سلسلة أزمات، بل أصبح ملامح مشروع تآكل شامل لوظائف الدولة، انهيار اقتصادي غير مبرر، تعدد في مراكز القرار، توقف في صرف الرواتب أو تراجعها بشكل حاد، وتدهور في القيمة الشرائية للعملة الوطنية، يقابله تفكك في الخدمات الأساسية من صحة وتعليم وكهرباء ومياه، وهي ليست نتائج حتمية للحرب، بل دلائل متزايدة على حالة تفكيك مدروس تُدار من خارج الحدود وتُنفذ بأدوات محلية.
تشمل أدوات هذه الحرب الصامتة تدمير النظام النقدي من خلال تعدد طبعات العملة وفقدان السيطرة على سعر الصرف، وسحب السيولة من السوق، وتعطيل صادرات النفط والغاز، وإيقاف المصافي، وحرمان المؤسسات من النفقات التشغيلية. وتتمثل مظاهرها الميدانية في تظاهرات متكررة في المكلا وعدن وتعز وغيرها، احتجاجًا على انعدام أبسط الخدمات.
بالتوازي، يتفشى اقتصاد الظل والسوق السوداء، وتُهيمن شبكات نفوذ مالية غير خاضعة للمساءلة، بما يعمق بيئة اليأس العام لدى المواطنين.
ويُضاف إلى ذلك استهداف متواصل للقطاعات الحيوية كالتعليم والصحة والقضاء، عبر الإهمال المتعمد، وتوقف الرواتب، والتسييس، والإقصاء من الموازنات العامة. وقد انعكس ذلك في انهيار معايير الأداء داخل المؤسسات العامة، وتردي الخدمات، وتآكل الثقة بأي إمكانية للإصلاح أو التحسن، بما يُبقي المجتمع في حالة هشاشة بنيوية، ويغلق الأفق أمام أي مشروع وطني جامع.
في هذا السياق، لا تعتمد الحرب الرمادية على المواجهة المباشرة، بل تسعى إلى إبقاء الدولة في حالة موت سريري، حيث تتحول السيادة الوطنية إلى جزر نفوذ متعددة تُدار من الخارج، بينما تُعطل السلطة المركزية، ويجري تغييب اليمن عن المفاوضات الإقليمية والدولية التي ترسم مستقبله دون حضوره الرسمي.
ويعيد هذا الواقع إلى الأذهان تجربة قريبة جغرافيًا وزمنيًا، وهي تجربة الصومال التي دخلت منذ 1991 في مسار التفكك بعد سقوط نظام سياد بري. فقد تعددت السلطات وتفككت الدولة المركزية، ثم نشأ اقتصاد موازٍ يعتمد على تحويلات الخارج والأنشطة غير المشروعة.
وعلى مدى عقود، تحولت الصومال إلى ساحة صراع دولي، تستخدم أراضيها للقواعد العسكرية والمصالح الأجنبية، بينما بقيت السلطة الوطنية منزوعة القرار، والانتخابات شكلية تُدار من عواصم خارجية.
هذا النموذج تكرّس بفعل فشل مبادرات الدعم الدولي التي لم تؤدِّ إلى بناء دولة، بل إلى تعميق الانقسام، وهي الحالة التي يبدو أنها تُعاد بصيغة يمنية اليوم: سلطات موازية، حكومات منفى، نفوذ أمني واقتصادي خارجي، ومشاريع إقليمية تتجاوز الإرادة الوطنية، بينما المؤسسات الفعلية تُجرد من أدواتها السيادية.
إن جوهر هذه الحرب الصامتة لا يكمن في الضربات المباشرة، بل في إنهاك الدولة حتى تتآكل من الداخل، وتُدفع النخب السياسية إلى القبول بالوصاية كخيار وحيد، بينما يُجبر المواطنون على اختيار "الانفراج المشروط"، مقابل تنازلات سيادية أو اقتصادية تمسّ جوهر الكيان الوطني.
إذا لم تتحرّك القوى الوطنية لإدراك حقيقة ما يجري وتغيير قواعد اللعبة، فإن اليمن سيجد نفسه أمام واقع مشابه للصومال، ولكن بأبعاد أشد خطرًا، نظرًا لموقعه الجيوسياسي الحساس وثرواته البحرية والنفطية والجغرافية التي تحفز التدخلات الخارجية وتُغري بتفكيكه.
ما يحتاجه اليمن اليوم ليس فقط وقف الحرب العسكرية، بل مشروع وطني شامل لتفكيك أدوات الحرب الصامتة: استعادة السيطرة على القرار المالي والاقتصادي، إعادة بناء مؤسسات الدولة، وتحقيق استقلالية القرار السياسي، وفضح الأجندات التي تُدير المشهد من خلف الستار.
فإن لم تنهض النخب اليمنية بمسؤولياتها التاريخية، فسيُكتب مستقبل اليمن بأقلام غير يمنية، كما كُتب مصير الصومال من قبل، وسيغدو الوطن ساحة مفتوحة لصراعات الآخرين، بلا سيادة، ولا دولة، ولا مشروع.
(انظر: تقرير الأمم المتحدة حول الصومال 2020، تقارير مجموعة الأزمات الدولية 2022، بيانات البنك الدولي عن اليمن والصومال، مقابلات المبعوث الأممي مع صحيفة "الشرق الأوسط"، 2023).