مقالات

السفر رفقة علي عنبة على ضوء القمر

18/10/2025, 19:55:08

من منتصف التسعينات، كان الكثيرون دائمي السفر بين صنعاء والحديدة، وكانت فرزة باب اليمن والبيجوهات، التي تنطلق إلى الحديدة، قبل أن تنقسم إلى 'باب اليمن' و'عَصِر'، وكانت فرزة 'باب اليمن' هي المفضّلة لدى الكثيرين؛ لقربها من 'باب السلام' وأسواق الجُملة والتحرير وغيرها.

كان السفر جميلًا بعد المغرب أو العشاء، وخاصة في الليالي التي تُصادف منتصف الشهر الهجري، أو بين الليلة العاشرة والليلة العشرين، يكون فيها القمر صاحب السطوة والسلطان على الأرض ومن عليها، فتكون رحلة مُمتعة وفي غاية الإبهار والرّوعة. 

وأعرف أصحاب سيارات كانوا يتركون سياراتهم الخاصة ويسافرون بالبيجوت لما فيها من حميمية وسواقين محترفين.

كان أكثر السائقين أصحاب خبرات طويلة بالطريق تمتد إلى سنوات طويلة، والرّكوب معهم مُتعة ما بعدها مُتعة، خاصة ونحن نتعرَّف على أصدقاء جدد، نتعرّف عليهم لأول مرّة وآخر مرّة تقريبًا، فنحمل أثرًا بعد عين لأجمل الصداقات الخالصة التي لا تشوبها شائبة، إضافة إلى المُتعة الفنية من خلال تشابه الأذواق مع بعض المسافرين وتنافرها مع البعض الآخر. والسفر يهذّب بعض النفوس، فتتحوّل بعض العداوات إلى صداقات عميقة.

وهو عكس ما يحدث اليوم تمامًا، حيث أجواء الحرب والضغائن والانقسامات تجعل الجميع متوجسين من بعضهم، فلا نقاش ولا فن ولا طرب ولا صحبة سفر ولا صداقات رائعة، وهذا شيء مُؤسف.

في السفريات الجميلة تطوي الطريق نفسها، ولا ندري إلا وقد مرت الساعات وباغتتنا المُدن الصغيرة التي نسافر من خلالها إلى وجهتنا كما يُباغتنا الحبيب بالفِراق.

القمر ينشر ضوءه الرّقيق من بداية خروجنا من صنعاء ومغادرتنا "مَتْنَة"، وبداية نزول البيجوت طريق 'بني مطر'، حيث نحُسّ بهيبة وجمال التِّلال والهضاب والمنعطفات، فتأخذنا إلى قُرانا وتعيدنا منها.

في الوقت هذا، نكون قد انتشينا مع الساعة السليمانية المسائية، وتأخذنا نشوة القليل من "القات" وصوت الفنان علي عنبة وهو يزفنا كعرسان، ويدهدهنا ونحن على تلال "الحَيْمَتَيْن" قبل وصولنا إلى 'بني منصور'، حين نتوقف للعشاء والاستراحة لنصف ساعة قبل أن نواصل رحلتنا التي تشبه إحدى ليالي "ألف ليلة وليلة".

كانت وما زالت وستظل الليالي المُقمرة تنسينا مأساتنا كيمنيين، وتعيد إلينا أرواحنا وذواتنا التي انتزعها تُجار الحروب والموت.

وهنا نأتي إلى الموضة التي انتشرت في تلك الأيام من خلال هوس السائقين بالمُطرب الشعبي الصاعد علي عِنبة، حيث كانت ألحانه تمنحهم نشوة ما بعدها نشوة، إضافة إلى نشوة "القات"، فيبدع السائقون أيُّما إبداع في القيادة على طريق 'بني مطر' و'الحَيْمَتَين'، ثم طريق 'مَنَاخَة' المعروفة بمنعطفاتها وليَّاتِها الرهيبة وسط الجبال الشّماء والقمم والسهول والوديان السحِيقة.

فيظل السائقون، رغم تقدّم أعمارهم، يتمايلون مع ألحانه رغم الكلمات البسيطة التي بدأ بها، ويواصلون تقليب الأشرطة إلى ما بعد 'باب باحل' (بحرف الحاء)، ويتوقفون عندما تبدأ أرض 'تهامة' المنبسطة السهول بطريقها الطويل دخولًا من 'باب الناقة' وإلى ما قبل 'باجل' و'القطيع' و'المَرَاوِعة' و'كيلو ١٦' المشهور جدًا كعلامة على اقترابنا من مدينة الحديدة، والساعة قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل، لكن الحُديدة ما زالت تلك المدينة التي تتمتع بالسكينة الاجتماعية والهدوء والبساطة والجَمال.

نكون جميعًا قد خُضنا مُتعة ومشقة السفر وطربيات علي عنبة التي تطوّرت مع مرور السنوات، وبدأ بإدخال الكثير من الآلات الموسيقية في أغانيه، سواء تلك التي يقدِّمها في الأعراس، أو في التسجيلات على أشرطة الكاسيت.

لقد تبسمت الحياة للفنان علي عنبة، وخاض تجربة فنية قريبة من الناس الذين ابتهجوا بما يقدِّمه لهم إلى أبعد الحدود، ولعلّ عدّة زيارات إلى 'يوتيوب' توضح بجلاء التجربة المُمتعة لهذا الفنان الجميل طربًا وإنسانًا.

عندما سُئل علي عنبة ذات يوم: ما الذي حققته في حياتك؟ قال: لقد جعلت كل أفراد أسرتي مطربين رائعين.

علي عنبة كان الأجمل صوتًا والأكثر قبولًا بين كل فئات المجتمع، فشاركهم أفراحهم وأتراحهم، فقد كان منشدًا دينيًا مبدعًا أيضًا، ويمتلك كل عناصر الفن الأوبرالي والأوكسترالي.

وبقي قريبًا من الناس وأذواقهم البسيطة، واقترب من أحاسيسهم المتوجّهة، وخاصة في المناسبات الاجتماعية، وظل يتمتّع بفضيلة التواضع والإبداع معًا.

ولقد جنى ثروة عظيمة، ليس أولها ثروة حب الناس التي تجسّدت بذلك التشييع المهيب لجثمانه إلى مقبرة المشهد.

ولقد ترك إرثًا فنيًا كبيرًا وإبداعًا سيبقيه حيًا في ذاكرة ووجدان عدّة أجيال من اليمنيين، وفي وجدان كل الطّبقات والفئات الاجتماعية التي ينتمي لها وتنتمي إليه، وخاصة في العاصمة صنعاء ومحيطها الواسع الكبير، مع ملاحظة أن صنعاء تمثل كافة شرائح المجتمع اليمني الكبير في مثال حيٍ على تعايش اليمنيين جميعًا.

طربيات علي عنبة الراقصة كانت تقيم أكبر صالات وقاعات الأعراس على رجل واحدة من بداية المقيل وحتى 'الهزيع' الأخير من الليل بلا توقّف، كانت روحه تنتقل من الإنسان البسيط العادي إلى الإنسان الخارق لقواعد الوجدان والمشاعر.

كان متنوعًا إلى حد الذّهول، ساعده على ذلك طبقات صوت وإجادة فائقة لكل الألوان التي كونته طفلًا وصنعت منه مطربًا رائعًا.

بقي متواضعًا كإنسان وكفنان، حتى وهو يقدِّم نفسه للآخرين معرفًا بنفسه وهو المعروف، قائلًا: "أنا أخوكم علي عنبة".

أما كفنان، فمن خلال تعبيره عن مشاعر اليمنيين بكل فئاتهم وطبقاتهم وأحزابهم وطرائق تفكيرهم، فقد ظل يربطهم بالفلكلور والتراث والمهاجل والأنغام البسيطة والكبيرة معًا، وحياتهم الموسيقية وأهازيجهم ورقصات أرواحهم وطرائق وجودهم الفني، من حين خُلق الإنسان وارتبط جسده بالغناء والموسيقى.

عندما نسمع علي عنبة وهو يغنّي أوبراليته التي تتعلق بحياة رُعاة الجِمال، ينتزعنا من أرواحنا إلى حياة الجَمّالين التي يلخّصها قول الشاعر:

ياليتني عشت جمال أعيش وارعى جِمالي.

مقالات

الدلع في ذروة الإبداع: أحمد بن أحمد قاسم وميلاد الحداثة الموسيقية اليمنية

في ذروة الإبداع يكون اللعب. هناك، في أقصى الإجادة للحن والعزف والغناء، ستجد الفنان وكأنه يلعب متخففًا من كل جدية. ما قرأته في فلسفة نيتشه، شاهدته في أداء الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم. ملامحه وحركاته. عزفه ونغماته.

مقالات

يهودية وعادها تنخط .. (سيرة ذاتية 19)

بقيت في المستشفى الجمهوري مدة أسبوع ولم أعرف ما هو مرضي بالضبط، وعندما ترجم لي المترجم كلام الطبيب الروسي وقوله إنني أعاني من سوء التغذية، خطر في بالي أنه قرر رقودي في المستشفى لكي أتغذى، وأنني سأبقى هناك لفترة. لكن الذي حدث هو أنهم بعد ثلاثة أيام أبلغوني بالخروج، وخرجت إلى الشارع قبل الغداء

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.