مقالات
اللص الذي أخرجني من الحبس (سيرة ذاتية - 17 -)
في صباح اليوم التالي، لم أتمكن من النهوض من النوم باكرًا. وعندما نهضت، كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة، وكنت في حالة يُرثى لها، وفكي يؤلمني من قوة اللكمات التي وجهها لي اللص اللعين. وعند خروجي، استوقفني العسكري عند الباب وقال لي:
"ما بش خرجة، أول شي سُدّ انت وصاحب الفرن."
ولحظة أبصرتُ صاحب الفرن واقفًا أمامي، تجمدتُ من شدة الرعب. كان صاحب الفرن منفعلاً ومتوتراً وزعلاناً من مدير القسم لأنه أطلق سراحي. واتضح لي أن العسكري الذي أوقفني هو نفسه الذي كلمه. وقتها لم يكن مدير القسم موجودًا. وفي الساعة الحادية عشرة، حضر المدير، وتفاجأ حين أبصرني أمامه، وزعل من تجاهلي نصيحته، خصوصًا وأنه كان قد نصحني أن أغادر القسم باكرًا. ثم تفاجأ بصاحب الفرن يدخل عليه ويقول له:
"الله المستعان يا مدير، بدل ما تنصفنا من غريمي تطلقه من الحبس!!"
قال له المدير وهو زعلان:
"من قال لك إننا أطلقناه؟"
قال صاحب الفرن:
"سمعت إنك أطلقتَه، واستغربت."
قال له المدير:
"غريمك موجود قدامك، ومش ممكن أطلقه من دون موافقتك."
وبعد أن انصرف صاحب الفرن، تفاجأتُ بأن مدير القسم زعلان مني، ولم يعد ذلك المدير اللطيف الذي كان قد تعاطف معي في اليوم الأول. وقال لي:
"أنا عملت اللي أقدر عليه وأطلقتك... وانت رجعت تحتبس! ونصحتك تقوم بدري وتخرج من القسم... وانت نمت! تحسب نفسك بفندق؟ ذلحين، خَارِجْ نفسك!"
ولحظتها، عدت إلى الحبس وأنا منكسر وحزين. ولأني كنت على يقين بأنني مغادر ولن أعود، فقد تخليت عن فراشي لواحد من المحابيس. لكن المحبوس الذي تنازلت له عنه رحمني بعد عودتي للحبس، وأعاد الفَرَش إليّ بعد أن عرف أنهم لم يسمحوا لي بالمغادرة.
وأما اللص الذي انتزع بطانيتي واستولى عليها بقوة لكماته، فقد عزمني على غداء، وكان ابنه قد أحضر له غداء من البيت. وبعد الغداء عزمني على قَات. وفي المساء، عندما أحضر له ابنه العشاء، طلب منه أن يعود للبيت ويحضر بطانية. وذهب الولد وأحضر له بطانية. وبعد أن أحضرها، أعاد إليّ بطانيتي التي انتزعها مني بالقوة.
وتبين لي ليلتها أنه لص ظريف ومتخصص في سرقة المشايخ وكبار المسؤولين. كانت التهمة التي حبسوه بسببها هي أنه سرق جنبية ثمينة، وكل ليلة كانوا يستدعونه للتحقيق معه. وكان هو ينكر أنه سرقها، وبعد أن واصل الإنكار، راحوا يضربونه ويواصلون ضربه كي يعترف بسرقتها.
وعند عودته من غرفة التحقيق، دخل علينا وهو يبتسم ابتسامة "حمراء"، والدم يقطر من فمه. ثم، وقد استلقى على فراشه، قال لي وهو يضحك:
"أمس يا عبد الكريم، مكنتك لكَم... واليوم، انتقموا لك!"
وفي اليوم التالي، سألني اللص عن قضيتي وسبب حبسي، ورحت أحكي له حكايتي. وحين قلت له إن مدير القسم أطلقني، وإنني عدت ثانية للحبس، ضحك من "هبالتي". ولما قلت له إن صاحب الفرن يريد مني خمسين ريالًا، وإن لم أدفع فلن يسمح بخروجي من الحبس، ناولني غصنًا من قاته، وقال لي:
"سهل، ولا عليك، الخمسين عليّ."
ومن خلال الحديث معه، تبين لي أنه لص استثنائي وغير عادي. وبعد خروجه، جعت جوعًا شديدًا، فقد كان هو الوحيد الذي يدعوني لمشاركته طعامه الذي يأتيه من البيت. وكان طعام اللص الظريف ألذ من أي طعام ذقته منذ وصولي إلى العاصمة صنعاء، فضلًا عن أنه كان طعام عيد، وليس كطعام الأيام العادية.
وبعد خروجه، لم أشعر فقط بالجوع إلى طعامه، وإنما شعرت بجوع إلى كلماته وأحاديثه، فقد كان كلامه عبارة عن أمثال وحكم. لكنه، وهو اللص، لم يكن يسرقها، وإنما كانت خلاصة حياة عاشها، وتجارب مرّ بها، وكانت تخرج من فمه وهي دافئة دفءَ أقراص الروتي وهي تخرج من الفرن.
كان صاحب الفرن يحضر كل يوم للتأكد من أنني لا زلت محبوسًا. وذات صباح، وقد فقدت الأمل في الخروج من حبس قسم "باب البلقة"، تفاجأت باللص الظريف، سارق الجنابي، يزورني ويدس في جيبي ستين ريالًا، ويقول لي:
"خمسين ريال تخرج بها، وعشرة مصروفك."
ومن شدة فرحتي، نسيت أن أسأله عن عنوانه وأين يقيم؟! وبعد ذهابه، بقيت أنتظر ـ على قلق ـ حضور مدير القسم. وعند حضوره، طلبت منه أن يرسل من يستدعي صاحب الفرن لأدفع له ثمن الروتي الذي تسببت في احتراقه.
ولأن الفرن كان بجوار القسم، فقد حضر على الفور، ودَفعت له خمسين ريالًا بحضور المدير. ثم، وقد خرجتُ من القسم، خرجت منتصب القامة أمشي وفي جيبي عشرة ريالات، وهو أكبر مبلغ حصلت عليه منذ تركت الحديدة، وتركت وظيفتي وراتبي.
وعند عودتي للبيت، مررت على اليهودية "نعومي" لآخذ منها المفتاح. وكان في ظنها أنني سافرت إلى القرية في إجازة العيد، ولم أقل لها إنني قضيت العيد في الحبس حتى لا أثير مخاوفها وشكوكها. لكن ملابسي المتسخة، وأوساخي التي تراكمت خلال إجازة العيد، كانت بمثابة لافتة لفتت انتباهها، وقالت لها ما لم أقله.
وحتى لا تهتز صورتي في عينيها الجميلتين، أخرجت ريالًا من جيبي وناولتها. ولحظتها، انفرجت أساريرها، وتفتحت بشرتها، وتورّدت خدودها، وابتسمت لي ابتسامة تشبه رغوة الصابون.