مقالات
أزمة الثقة في اليمن: من انقسام الداخل إلى استغلال الخارج (٤)
إزاحة هادي: لحظة انكشاف الشرعية
مثّل انتقال السلطة في إبريل 2022 من الرئيس عبدربه منصور هادي – الذي حمل مشروع الدولة الاتحادية – إلى مجلس القيادة الرئاسي المكوّن من ثمانية أعضاء، محطة مفصلية في مسار الأزمة اليمنية. فقد جاء القرار بدون إرادة وطنية، بل استجابة لضغوط إقليمية ورعاية مباشرة من الرياض وأبوظبي، مع تأييد عربي ودولي حرص على تأكيد وحدة الكيان الوطني واستمرارية الشرعية الدستورية، وذلك تحت غطاء ضغوط الواقع العسكري والسياسي، ومحاولة لإعادة تفعيل مؤسسات الدولة وتوحيد الجهود في مواجهة الانقلاب.
هشاشة البنية المؤسسية للمجلس الرئاسي
غير أنّ هذه الخطوة التي بدت في ظاهرها معالجة سياسية عاجلة، أظهرت في عمقها حجم التحديات البنيوية التي تعاني منها السلطة الشرعية منذ سنوات. فالمجلس الرئاسي لم يُنشأ فوق أرضية مؤسسية صلبة، بل فوق واقع مشرذم تتعدد فيه مراكز النفوذ، وتغيب عنه آليات الحوكمة الفعّالة، ويهيمن عليه منطق المعادلات الميدانية وترسيخ أجندة القوى الإقليمية، أكثر من المنظورات الدستورية. ومع مرور الوقت، تسبّبت هذه الاختلالات في مضاعفة إضعاف حضور الدولة على الأرض، وتنامي نفوذ الجماعات المسلحة ذات الولاءات المتعددة، الأمر الذي قلّص مساحة الفعل الوطني الموحّد وأضعف قدرة القوى المؤمنة بمشروع الدولة الاتحادية على التأثير في مسار الأحداث.
دور النخب الثقافية والدينية في تعميق أزمة الثقة
لم تكن النخب الثقافية والدينية في اليمن بمنأى عن أزمة الثقة الوطنية، بل ساهمت في تعميقها حين انحرفت عن دورها التنويري، وانخرطت في إعادة إنتاج الانقسامات السياسية والمناطقية والمذهبية. فقد تحوّلت بعض النخب الدينية إلى أدوات تعبئة طائفية، تكرّس الولاء للجماعة على حساب الانتماء الوطني، بينما انجرفت نخب ثقافية نحو خطاب ضيق يعيد فرز المجتمع وتقسيمه إلى انتماءاته الأولية، متخلية عن دورها النقدي في مساءلة السلطة ومسؤوليتها في بلورة مشروع وطني جامع.
وتتجلى خطورة هذا المسار فيما يقوم به المجلس الانتقالي الجنوبي من محاولات لصياغة هوية جنوبية منسلخة عن الهوية الوطنية الجامعة، عبر خطاب إقصائي يعيد إنتاج الانقسام الجغرافي والتاريخي، ويُقصي مكونات جنوبية وازنة لا تتماهى مع مشروعه. وفي المقابل، لا تزال النخب الموالية لأنصار الله تشرعن سلطة الولاية على حساب العقد الاجتماعي، مُنتجة هوية طائفية مغلقة تُقوّض الأساس الجمهوري للدولة.
للخروج من الدور السلبي الذي لعبته بعض النخب في تعميق الانقسام، لا بد من إعادة تعريف دورها بوصفها المعمار الفكري والأخلاقي لمشروع وطني جامع، لا مجرد أدوات خطابية أو امتدادات سلطوية. فالنخب - الثقافية والدينية على السواء - مطالبة اليوم بتجاوز الاصطفاف والانغلاق، والانخراط في صياغة رؤية تعيد الاعتبار للحلم الجمهوري، وتستنهض الوحدة بوصفها مشروعاً تحررياً. إن بناء فضاء ثقافي تعددي يعزز قيم المواطنة المتساوية ويُرسّخ ثقافة الشراكة والاعتراف المتبادل هو مدخل لا غنى عنه في ترميم الهوية الوطنية، ولملمة المشروع الوطني.
نحو استعادة الثقة المفقودة: الطريق المؤجَّل لبناء الدولة
تكشف مسارات الانقسام التي راكمتها السنوات الماضية أن اليمن لا يعاني نقصاً في المشاريع السياسية بقدر ما يعاني انعداماً في الثقة؛ تلك الثقة التي تصل المجتمع بدولته، والدولة بمواطنيها، والنخب ببعضها. فمنذ 2011، اصطدمت كل محاولات بناء السلطة وإعادة تشكيل الشرعية بجدار واحد: غياب الثقة بوصفها الشرط الأول لولادة الدولة الحديثة. ولذلك فإن الخروج من الأزمة لا يبدأ من تسويات سياسية فوقية أو إعادة توزيع النفوذ، بل من ترميم العلاقة التأسيسية التي انهارت بفعل الانقلاب، والتحالفات المتناقضة، والتدخلات الإقليمية، وانفجار الهويات.
حياد الدولة وتفكك القدرة على الحسم
ومن أبرز مفارقات الحياة السياسية بعد 2013 ظهور ما يمكن تسميته بـ“حياد الدولة”، الذي مثّل أحد تجليات ضعف القيادة آنذاك. فقد تبنّت مؤسسات الدولة خطاباً يروّج للحياد وكأنه موقف وطني، في لحظة كانت تحتاج إلى أعلى درجات الحسم. هذا التردّد سمح للجماعات الانقلابية بالتوسع محافظة بعد أخرى حتى وصلت إلى قلب العاصمة، بينما اكتفت مؤسسات الدولة بالصمت - سواء كان صمتا عاجزا أو تواطؤا فعليا.
وتضاعفت الأزمة حين انتقلت سلطات الرئيس هادي إلى مجلس لم يُظهر القدرة ولا الإرادة لحماية الثوابت الوطنية، بل بدا متجاوباً في لحظات عدة مع مشاريع تستهدف تفكيك الكيان الوطني ذاته. وبذلك أعادت الشرعية إنتاج مأساة 2014 من داخل بنيتها، إذ لم يعد الخطر محصوراً في انقسام المشروع الوطني، بل في تهديد وجود الدولة ككيان جامع وفقدانها شرعيتها أمام مواطنيها. هذا الفراغ في الإرادة والشرعية فتح الباب واسعاً أمام قوى الأمر الواقع لفرض وقائع جديدة، ودفع اليمن نحو حافة تفكك كامل، لا مجرد أزمة دولة حديثة.
إحياء جوهر الدولة وإعادة تأسيس الشرعية
إن استعادة الدولة تبدأ بإحياء جوهرها الأول: دولة القانون التي تقف على مسافة واحدة من الجميع، ولا تُختطف لصالح مشروع ضيق. ويتطلّب ذلك معالجة البنية العميقة للانقسام عبر وقف دائم للقتال، وتفكيك اقتصاديات الحرب، وإعادة توحيد المؤسسات العسكرية والمالية بما يعيد للدولة الحد الأدنى من احتكار العنف والقرار السيادي.
وفي المدى المتوسط، يمكن لاتفاق دستوري انتقالي - لا دستور نهائي - أن يشكّل إطارا مرنا لإعادة بناء السلطة وفق قواعد مؤسسية واضحة تضمن توزيعا عادلا للصلاحيات والثروة، ويعيد فتح الباب أمام ترميم الثقة بين المكوّنات المتنازعة.
مشروع وطني لإعادة تأسيس الوعي الجمعي
أما على المدى الأبعد، فإن حماية بقاء الكيان الوطني تستلزم مشروعاً وطنياً يعيد تشكيل الوعي الجمعي حول قيم المواطنة، ويصحّح الانحراف الذي فرضته الطائفية والمناطقية، خلال هذه الحرب، ويمنح المجتمع أدوات مقاومة التفكك. فالثقة لا تُستعاد بالتشريعات وحدها، بل ببناء ذاكرة مشتركة، وتعليم غير إقصائي، وإعلام مسؤول، ومجتمع مدني يراقب السلطة ويمنع عسكرة المجال العام.
خاتمة جامعة للمقالات: نحو استعادة الثقة بوصفها شرط قيام الدولة اليمنية
تكشف سلسلة المقالات الأربعة - من وجهة نظر كاتبها -، من خلال تتبّع مسار الدولة اليمنية خلال العقود الماضية، أن أزمة اليمن ليست أزمة سياسة أو حرب فحسب، بل أزمة ثقة بنيوية تتجذّر في عمق العلاقة بين المجتمع والدولة، وبين مكونات الداخل، وبين اليمن والعالم المحيط به. إذ يبيّن التاريخ الحديث - منذ قيام الجمهورية في الشمال والاستقلال في الجنوب، ثم الوحدة، فمرحلة ما بعد 2011 وحتى الانقلاب والحرب الراهنة - أنّ كل منعطف سياسي كبير كان ينهض على وعد ببناء الثقة، ثم يسقط لاحقا بسبب عجزه عن تحويل هذا الوعد إلى عقد اجتماعي صلب.
لقد أبرز الجزء الأول كيف تراكمت الشكوك عبر التاريخ، وتداخل فيها الداخلي بالخارجي، حتى تحولت إلى بنية ذهنية وسياسية تتحكم في سلوك الفاعلين. فالانقسام الداخلي، الذي استمد جذوره من سوء الإدارة واستدعاءات النخب للتنازع، وجد في تدخلات الإقليم والغرب بيئة خصبة لإعادة إنتاج الشروخ، في دورة لا تنتهي.
أما الجزء الثاني، فقد كشف أن الثورات اليمنية - سبتمبر وأكتوبر والوحدة - كانت محاولات كبرى لإعادة تعريف الهوية الوطنية وبناء دولة حديثة. غير أن هذه اللحظات التأسيسية، رغم طاقتها التاريخية الهائلة، تعثرت لأنها قامت دون أن تترافق مع بناء مؤسسي صلب أو توزيع عادل للسلطة والثروة أو رؤية جامعة لإدارة التعدد. فظلّ مشروع الدولة يتقدّم طموحا ويتراجع فعلا، مترنّحا بين مركزية خانقة وصراعات هامشية متناسلة.
ثم جاء الجزء الثالث ليقدّم اللحظة الكاشفة: انهيار الدولة بعد 2011، الذي أثبت أن هشاشتها لم تكن طارئة، بل نتيجة تراكمات طويلة في ضعف البنية المؤسسية وغياب العقد الوطني الجامع. ومع الانقلاب الحوثي وتدخلات الإقليم وتعدد سلطات الأمر الواقع، دخلت البلاد طورا جديدا تضاعفت فيه أزمة الثقة: ثقة المجتمع بالدولة، ثقة القوى ببعضها، وثقة الأطراف الإقليمية والدولية بقدرة اليمنيين على إنتاج مشروع جامع.
وعبر هذا المسار الطويل، يبرز خيط ناظم واحد: كل مشروع لبناء الدولة في اليمن سقط حين غابت الثقة، ونجح - حين نجح - بقدر ما توفرت عناصر الثقة بين مكوّناته. الثقة هنا ليست شعورا عاطفيا، بل هي بنية سياسية واجتماعية ومؤسسية، تقوم على:
1. عقد اجتماعي واضح يحدد العلاقة بين السلطة والمجتمع.
2. مؤسسات محايدة تتجاوز الولاءات الضيقة.
3. نخب سياسية قادرة على إدارة التعدد لا استدعائه للصراع.
4. توازن وطني يمنع تغوّل المركز وتهميش الأطراف.
5. جمهورية تستمد شرعيتها من المواطنة لا من توازنات القوة.
إن خلاصة سلسلة هذه المقالات ترى أن اليمن لا يحتاج إلى “حل سياسي” بالمعنى الإجرائي الضيق، بل يحتاج إلى إعادة تأسيس العلاقة الوطنية على قاعدة جديدة، تجعل الثقة - لا القوة ولا التحالفات المؤقتة - هي أساس بناء الدولة. فالدولة التي تُبنى على الخوف أو الإكراه أو المساومات الجهوية سرعان ما تنهار، أما الدولة التي تُبنى على ثقة متبادلة بين مكوناتها، وعلى مؤسسات عادلة، فهي وحدها القادرة على الصمود أمام العواصف الداخلية والخارجية.
وبذلك، لا تبدو أزمة اليمن قدَرا محتوما، بل تبدو نتيجة لمسار خاطئ يمكن تصحيحه. إن استعادة الثقة ليست ترفا نظريا، بل هي مدخل حتمي لإعادة بناء الدولة وإنهاء الحرب وترميم الوحدة الوطنية. وما لم يُعاد الاعتبار لفكرة العقد الوطني الجامع الذي يقوم على المشاركة والعدالة والندية بين المركز والأطراف، سيبقى اليمن أسير دوامة الانقسام واستغلال الخارج، مهما تبدلت الوجوه وتغيرت موازين القوى.
هذه السلسلة - في جوهرها - دعوة لإعادة اكتشاف ما أهدره التاريخ: أنّ اليمن، حين تتوفر الثقة بين مكوّناته، قادر على أن ينهض من جديد، وأن يكتب فصله القادم بوعي أشد وصلابة أكبر من كل ما سبق.