مقالات
أكتوبر اليمني.. جذوة التحرير التي أنارت طريق الوحدة
في الذكرى الثانية والستين لثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدة، تستحضر اليمن اليوم صفحاتها المضيئة من تاريخ وطني عريق، ومسيرة كفاح ضد الاحتلال البريطاني الذي سلب الجنوب اليمني من روحه، وهمّش كيانه، وزرع الانقسام بين أبنائه عبثًا بقدرٍ واحد.
لقد كانت هذه الثورة المجيدة جزءًا أصيلًا من الحركة الوطنية اليمنية الكبرى التي تلاقت فيها إرادة الشعب اليمني في الشمال والجنوب، وتكامل فيها نضال الأحرار ضد الاستعمار والإمامة معًا، فكانت أكتوبر امتدادًا طبيعيًا لسبتمبر، كما كانت عدن هي حاضنة سبتمبر، وصوت الثوار واحدًا في صنعاء وعدن والضالع وتعز والبيضاء، ينشد الحرية والوحدة والاستقلال.
لم تكن ثورة أكتوبر مجرد انتفاضة ضد الاستعمار البريطاني فحسب، بل مشروعًا تحرريًا متكاملًا استهدف إعادة بناء الكيان اليمني، منطلقًا من جزئه الجنوبي على أسس حديثة عادلة، وإسقاط نظام المشيخات والسلطنات الذي صاغه المحتل ليُبقي الجنوب مقسّمًا إلى خمس وعشرين سلطنة ومشيخة متناحرة، يسودها الجهل والتبعية، وتغيب عنها الدولة والعدالة.
لقد أنهت الثورة المجيدة ذلك النظام الرجعي الإقطاعي، وقدّمت نموذجًا في الوعي الوطني والنضال الشعبي الذي تجاوز حدود الجنوب، ليصبح رافعةً لمشروع اليمن الكبير... مشروع الدولة الواحدة ذات السيادة، دولة النظام والقانون والمواطنة المتساوية.
كما أن الوحدة لم تكن تهجّمًا على هوية الجنوب، ولا تعدّيًا على خصوصيته، بل تتويجًا لمسيرة التحرر الوطني -التي انطلقت من الجنوب نفسه– ضد الاستبداد والهيمنة والتبعية، ووليدة لتضحيات مشتركة قادتها الحركة الوطنية التي آمنت بأن اليمن لا يتجزأ، وأن مصير أبنائه شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، مشترك.
فكان الهدف أن يتوحد الشعب في كيان وطني عادل يتسع للجميع، وتزول فيه الفوارق المصطنعة التي غرسها الاستعمار ومخلّفاته.
ومع ذلك، فإن مشروع الوحدة الذي تحقق في الثاني والعشرين من مايو 1990، كمشروع جنوبي خالص، لم يكن طريقًا مفروشًا بالورود؛ فقد واجه صعوبات موضوعية وتحديات مركبة، من تفاوت تنموي، واختلال في توزيع السلطة والثروة، وإقصاءات واختلالات طالت شريك الوحدة وبطلها الأول الرئيس علي سالم البيض، وكوادر الحزب الاشتراكي اليمني، وصراعات حزبية ضيقة عطّلت ترسيخ الدولة المدنية المنشودة.
غير أن هذه الإخفاقات لم تلغِ جوهر الفكرة، ولا مشروعية الوحدة، بل أكدت أن ما يحتاجه الوطن هو الإصلاح والتجديد، وإعادة صياغة العلاقة بين مكوناته على قاعدة العدالة والندية والمواطنة المتساوية، لا الانفصال والعودة إلى الوراء.
واليوم، ومع بروز الدعوات التي يطلقها رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي الأخ عيدروس الزبيدي ومن معه، تحت شعار “استعادة دولة الجنوب العربي”، فإننا أمام منعطف وطني خطير يعيدنا إلى مصطلحات استعمارية تجاوزتها الحركة الوطنية منذ ستين عامًا، ويطرح تصورات تتناقض مع روح ثورة أكتوبر المجيدة وأهدافها الخالدة، التي كانت مشروعًا للوحدة لا للانقسام، وللتحرر لا للانعزال.
إن مصطلح “الجنوب العربي” لم يكن يومًا اسمًا وطنيًا، بل هو تسمية استعمارية استخدمها البريطانيون لتقسيم الأرض والناس، وإلغاء الهوية اليمنية التي ظلّت حاضرة في وجدان أبناء الجنوب من الضالع حتى سقطرى، رغم كل محاولات الطمس.
فالدولة التي قامت عقب ثورة أكتوبر كانت تحمل اسم “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”، وهو الاسم الذي ظل يعكس اعتزاز الجنوب بهويته اليمنية وانتمائه القومي العربي، ولم تتخلَّ تلك الدولة عن اسم اليمن رغم استقلالها الإداري والسياسي، لأنها كانت تدرك أن هويتها أعمق من حدود الجغرافيا، وأوسع من صراعات السياسة.
ومن هنا، فإن الدعوات "الانفصالية" اليوم ليست سوى تراجع –إن لم نقل رِدّة– عن المشروع الوطني الذي تبنّاه الأحرار من عدن إلى الضالع، ومن لحج إلى حضرموت، حين آمنوا أن الجنوب هو رافعة المشروع الوطني لليمن بأسره، وأن دوره التاريخي لا يمكن اختزاله في كيان صغير محدود ينعزل عن امتداده الطبيعي والإنساني.
إن الانفصال ليس حلًا، بل بداية لدوامة جديدة من الصراع، إذ لا يمكن لأي جزء من الوطن أن ينهض وهو معزول عن بقيته، كما لا يمكن لجنوب ممزق بين قوى متصارعة أن يحقق استقرارًا أو تنمية أو سيادة حقيقية.
فالواقع السياسي والاقتصادي والأمني للجنوب اليوم لا يسمح بقيام دولة مستقلة مستقرة دون دعم وطني شامل وإجماع داخلي واسع، وأي مشروع يُفرض بالقوة أو يُبنى على حساب بقية الشعب محكوم عليه بالعزلة والفشل.
فوحدة اليمن، كمشروع وهدف لثورة 14 أكتوبر، ليست عقدًا سياسيًا فقط، بل قدرًا جغرافيًا وتاريخيًا وإنسانيًا؛ هوية جامعة تشكلها اللغة والدين والثقافة والنسب والتاريخ والمصير المشترك.
فالروابط الاجتماعية الممتدة بين الشمال والجنوب، والمصاهرة بين الأسر، وتشابك المصالح الاقتصادية، وتكامل الموارد بين البحر والجبل، كلها تجعل الانفصال ضربًا من العبث بالمقدرات الوطنية.
كما أن الانقسام سيؤدي إلى تمزيق النسيج الاجتماعي في الجنوب ذاته، وإعادة إنتاج صراعات مناطقية وقبلية قد تعيدنا إلى زمن السلطنات القديمة التي ثار عليها أبطال أكتوبر وعظماء الحركة الوطنية الأوائل.
وبالتأكيد، فإن الهوية اليمنية الجامعة لا تقوم على الجغرافيا وحدها، بل على التاريخ المشترك، والمصير الاقتصادي، والأمن القومي، والتماسك الاجتماعي، وكلها مقومات لا يمكن تفكيكها دون أن ينهار البناء بأكمله.
فالمشروع الوطني الحقيقي لا يُبنى بالانسلاخ من الماضي، بل بتصحيح الحاضر من أجل المستقبل، وإعادة بناء الدولة على أسس عادلة تضمن الشراكة والمشاركة المتكافئة لكل أبناء الوطن في السلطة والثروة.
إن على القوى السياسية في الشمال والجنوب أن تتعامل مع هذه المرحلة بعقلانية ومسؤولية وطنية عالية، وأن تدرك أن مستقبل اليمن لن يُصان إلا بوحدة إرادته، وعدالة قضاياه، وتكامل مكوناته، لا بإعادة إنتاج الكيانات الصغيرة، أو تبرير المشاريع الضيقة بأسماء جديدة.
فالجنوب الذي قدّم الشهداء في ردفان وعدن وحضرموت والضالع والمهرة، كما قدمها في خولان وصعدة وحجة والجوف، لا يمكن أن يتحول إلى ساحة لتفكيك ما بناه الآباء، ولا يجوز أن تُستغل تضحيات الأحرار لتسويق مشاريع سياسية تتناقض مع مبادئ الثورة وأهدافها.
إن وحدة اليمن هي خيار الأجيال وقضية مصير، كما هي الضمانة الوحيدة لبناء دولة قوية عادلة، قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وعلى النهوض من أوجاع الحرب نحو السلام والتنمية.
فالتاريخ لن يرحم، واليمنيون الذين قاتلوا قرنًا كاملًا من أجل التحرر والوحدة، لن يقبلوا العودة إلى الوراء.
تجعلنا ذكرى الرابع عشر من أكتوبر نتذكر أن الجنوب لم يكن يومًا مشروع انقسام، بل مشروع حرية وكرامة ووحدة وطنية شامخة، وأن الحركة الوطنية اليمنية التي صنعت أكتوبر وسبتمبر معًا لا تزال هي المرجعية الأخلاقية والسياسية التي تستحق أن نعود إليها، لأنها وحدها التي تمتلك الرؤية القادرة على جمع اليمنيين من جديد في إطار عادل ومتوازن، يضمن الكرامة والمواطنة والمشاركة لكل أبناء الشعب.
وسيظل الجنوب، كما كان دومًا، هو رافعة المشروع الوطني لليمن كله، قلبه النابض، وضميره الحي، وركيزته التي لا تقوم الدولة بدونها؛ فمن رحم عدن انطلقت الثورة، ومن جبال ردفان ارتفع صوت الحرية، ومن وعي أبناء الجنوب تشكلت الفكرة الوطنية الحديثة التي جعلت من الوحدة اليمنية حلمًا وواقعًا.
وإن أي مشروع أو دعوة تُعيدنا إلى مربع التمزق والتجزئة، إنما هي خيانة لدماء الشهداء، وتنكر لجوهر ثورة أكتوبر الخالدة، التي علّمت الأجيال أن الحرية الحقيقية لا تُختصر في كيان ضيق، بل في وطن واحد كبير يجمع كل اليمنيين على قلب واحد، وراية واحدة، وهوية لا تتجزأ.