مقالات

اغتصاب مدينة!

29/04/2024, 12:45:47

للمدينة ذاكرة لا تمحو ولا تُمحى؛ ذاكرة المكان والزمان والناس والأشياء والمشاعر والألسنة.

منذ أكثر من ثلاثين سنة، أعود إلى مدينتي (عدن) بين الحين والآخر، فلا أجد المكان باقياً في مكانه. وبالطبع غادر الزمان مساحته في العين والقلب والذاكرة، أما الأشياء فلم تعد هي الأشياء نفسها، ولا المشاعر. حتى الكلام المتداول صار غريباً عني، فثمة لغة جديدة تسود الشارع ولسان غير اللسان!

هذه الملاحظة تنطبق على مدينتي الأخرى (صنعاء) إلى حدٍّ كبير، أو شبه متطابق. وأهلها الأصليون أجدر مني بالحديث عنها، وعن أمورها - اليوم - التي اختلفت عن أمورها قبل بضعة عقود.

وتأتيك تعز بالحديث نفسه، والمكلا، والحديدة، فأغلب - إن لم يكن كل - المدن اليمنية شهدت المشهد ذاته.

للمدينة العتيقة ذاكرة عميقة، كذاكرة الغربان والأفيال والخيول والدلافين؛ ذاكرة تاريخية بحق وجدارة؛ غير أن بعض المدن - لاسيما الحديثة - لها ذاكرة الأسماك أو ذاكرة بعض الحشرات.

ويجدر القول في مثل هذه الحالة إن للمدن القديمة ذاكرة الحياة، فيما المدن الجديدة مصابة بالزهايمر.

"إن مدن البحر هي الأسطع ذاكرة من مدن الجبل والوادي"، ... لا أدري كيف جاءت هذه العبارة إلى ذهني؟ وهل هي فرضية نظرية أم قاعدة ثابتة؟ هل مرَّت بي يوماً خلال قراءةٍ ما، أم أنها من بنات أفكاري المنتمية إلى مدينةٍ بحريةٍ سكنتُها وسكنتْني منذ زمنٍ بعيد؟

ربما لأن مدن البحر تستقبل وتحتضن وتُودِّع أسراباً شتى من البشر من كل الأجناس والألوان والألسن والعادات والمشارب والأديان، لأزمنةٍ مديدة ولأجيالٍ عديدة. وهؤلاء جميعاً ينحتون ذاكرتها، فيؤثرون فيها ويتأثرون بها، يُصبغونها بهوياتهم ويُلبسونها طبيعتهم، فإذا بذاكرتها تحتوي كل ذلك القدر الهائل من التنوع والاختلاف، وهذا الموزاييك العجيب من الثقافات والحضارات.

وذلك على العكس تماماً من المدن المسلولة إلى جبل أو المصلوبة على وادٍ، فتلك من طبيعتها الانغلاق على نفسها وأهلها، ومن ديدنها أن تدور حول فلكها على نحوٍ نمطي سائد منذ عقود وعهود، وأزمنة متلاحقة.

سيقول قائل إن عديداً من العواصم - وإنْ كانت مدينة جبل أو واد - تكتسب بالضرورة طبيعة مدينة البحر، بسببٍ من توافر الاختلاف والاختلاط والتنوع والتجدد في نوعية سكانها؛ لكونها عواصم فحسب. أقول إن ذلك صحيح إلى حدٍّ بعيد؛ فمدينة صنعاء - مثالاً - تكتسب هذي الصفة كعاصمة جذبت طبيعة ونوعية الحياة، فيها أناس من كل المدن والقرى والجهات في طول البلاد وعرضها، ومن خارج اليمن أيضاً.

وقد يمتعض البعض من زعمي أن مدينة صنعاء (اليوم) سلبت مدينة عدن هويتها التي كانت تُفاخر بها عهداً طويلاً في الماضي؛ باعتبارها مدينة "كوسموبوليتية" بمعنى الكلمة، لاسيما بعد أن صارت مدينة طارِدة ومُطارِدة لليمنيين المنتمين جغرافياً أو طائفياً لبعض جهات البلاد دون غيرها!

للأسف الشديد، عقلية حملة سلاح الأكتاف، لا سلاح الأدمغة، قتلت في عدن هويتها، التي خلقها الله عليها منذ أبدع نقشها على ساحلٍ لازوردي كلوحة فسيفسائية بديعة للغاية، لم تستطع كل الأزمنة والأنظمة أن تطمسها أو تخدشها، فجاءها من مزَّقها تمزيقاً، واغتصبها اغتصاباً لمرضٍ في النفس خطير!

إن المدن أيضاً، وليس النساء فقط، تتعرض للاغتصاب. واغتصاب المدن يكون باغتصاب هويتها العريقة وثقافتها الأصيلة. وذاكرة المدينة هي التي تتأذَّى وتُدمَّى وتتألم جراء هذا الفعل الشنيع.

وأستطيع أن أرى ذاكرة عدن وقد تعرضت لهذه الجريمة اليوم على مرأى ومسمع من التاريخ وأهله.

مقالات

رحلتي الجهنمية إلى عدن - ٢- (سيرة ذاتية -٢١-)

عند وصولنا آخر منحدر في "نقيل سُمارة" اصطدمت سيارتنا بسيارة بيجو قادمة من أسفل النقيل، ولا أذكر ما الذي حدث بعد ذلك. أذكر فقط أنني وجدت نفسي راقدًا فوق سرير في مستشفى بمدينة إب، وكل عضو من أعضاء جسدي يكاد يصرخ من شدة الألم.

مقالات

الهارب من الجحيم متهم في المخا

في المخا تُعامَل كلّ نفسٍ هاربةٍ من بطش الميليشيا كما لو أنها خيانةٌ تمشي على قدمين. وكأنّ النجاة من الجحيم أصبحت جرمًا يستوجب العقاب، لا حقًّا من حقوق الإنسان والوطن. بيدَ أنَّ من أبسط مقوّمات الانتماء أن يُتاح لليمني أن يعود إلى حضن أرضه، مهما تلطّخ ماضيه بظلال الخديعة

مقالات

مستقبل العمل الإنساني.. إلى أين؟

تتجه أنظار كثيرين حول العالم إلى العاصمة اليمنية صنعاء، حيث أعلنت جماعة الحوثيين الأسبوع الماضي عن تقديم 43 موظفاً في بعض وكالات الإغاثة الدولية، من أصل 59 تحتجزهم الجماعة، إلى المحاكمة بتهمة التجسس لصالح إسرائيل

مقالات

ما وراء حرب الإبادة في السودان

يشهد السودان حربَ إبادةٍ يحاول صُنّاعها تقليدَ ما يجري في غزة، حتى في الحصار والتجويع وقتل الأطفال. السودان متسع كقارة، وله جوار مع سبع دول، وقبلًا مع تسع دول.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.