مقالات
أزمة الصرف أم أزمة السلطة؟
ليست أزمة العملة في اليمن مجرد نتيجة لتدهور اقتصادي محض، إنّها انعكاس لأزمة مجلس القيادة وتفكك النظام المالي والإداري، وتحوّل السياسة إلى سلسلة من المناورات التي تعالج الانهيار كأنه مسألة علاقات عامة، لا معركة سيادية على موارد الدولة. وقبل ذلك كله، نتيجة لغياب أولوية إزالة التهديد الحوثي.
الحديث عن انهيار الريال لا يمكن فصله عن أزمة مجلس القيادة وبنية السلطة الموازية التي أقامها المجلس الانتقالي، الذي وجد في تعطيل الدولة فرصة لتوسيع سلطته، وليس ورطة يجب معالجتها. لقد بنى المجلس لنفسه شبكة مالية معقدة تتداخل فيها مصالح نخبة من موردي الوقود وكبار شركات الصرافة التي تحظى بحماية سياسية وتنظيمية من قِبله، واستفادت لسنوات من الامتيازات في غياب رقابة البنك المركزي.
لا يمكن تصوّر استقرارٍ للعملة، أو أي أداة اقتصادية فاعلة، في ظل تمركز هذا الحجم من السلطة المالية خارج الأطر المؤسسية.
لكن التحوّل الجدير بالملاحظة هو أن هذه الشبكة نفسها بدأت تتآكل من الداخل. فالمجلس الانتقالي، الذي لطالما قاوم توحيد الإيرادات وتوريدها إلى البنك المركزي، بات اليوم يدرك أن مواصلة هذا السلوك قد تقوده إلى فقدان السيطرة في عدن.
الاضطراب المتزايد في الأسواق، وارتفاع منسوب الغضب في الشارع، وانكشاف هشاشة بنيته الإدارية، كلها عوامل أجبرت الانتقالي على إعادة التفكير في خطابه الاقتصادي.
لكن المراجعة لم تكن نحو نموذج عقلاني للإصلاح، وإنما إلى نسخة معدّلة من نموذج الحوثيين في إدارة العملة بالطريقة البدائية ونهج العصابات: تدخلات أمنية، قرارات مرتجلة ودعائية، حملات إعلامية ضد شركات تجارية، ومراهنات على إجبار السوق على الرضوخ بالقوّة. فكما فعل الحوثي في صنعاء، يتعامل المجلس الآن مع الاقتصاد كساحة دعائية، ويخوض المعركة الاقتصادية بذهنية من يدير غرفة إعلامية، لا من يحمي مؤسسة نقدية وطنية ويعالج أزمة اقتصادية تستلزم سياسة فعّالة وآليات معالجة اقتصادية ونهجًا عامًا يتعامل مع استمرار السيطرة الحوثية كتهديد حاسم يتطلب مواجهة سياسية وعسكرية حاسمة.
توجيه الاتهامات نحو بيت "هائل سعيد أنعم"، وتحميله مسؤولية تدهور العملة، ليس سوى امتداد لهذا المسار. فالمجلس لا يبحث عن حلول اقتصادية، وإنما عن كبش فداء يمكن تعليقه في واجهات الرأي العام، لتظل اليد التي تمسك بالمنافذ والإيرادات وتسيطر على الإدارة العامة للمؤسسات الحكومية بعيدة عن المساءلة.
ما يغيب عن هذا الخطاب هو أن القيمة الحقيقية للعملة لا تُستعاد بالضبط القسري لأسعار الصرف، وإنما بالسيطرة على الموارد العامة ومنافذ الإيراد السيادية. هذه المسألة لا تزال غائبة عن سلوك الحكومة، التي تبدو عاجزة عن حماية مصادر دخلها، ولا تسيطر على أدواتها المالية، وليس لديها موازنة عامة، أو على الأقل تصور مالي موحّد.
الحكومة الشرعية نفسها تفتقر إلى الحد الأدنى من أدوات السيطرة السيادية على الموارد، وتبدو وكأنها تمارس سلطة بالوكالة في اقتصاد لم تعد تملكه فعليًا. لا توحيد للإيرادات، ولا ضبط للمنافذ، ولا رؤية متماسكة لمعالجة الأزمة من جذورها.
المثير للاهتمام هو الحماسة المفاجئة التي أبدتها أطراف في المجلس الانتقالي لاتخاذ إجراءات عقابية ضد بعض الفروع التجارية في الضالع وشبوة وحضرموت، وكأنّ الاقتصاد يُستعاد ببيانات ميدانية وقرارات إعلامية وخطاب دعائي. هذا النوع من الإدارة الانفعالية لا يُنتج استقرارًا نقديًا، بقدر ما يُضيف مزيدًا من التوتر وعدم الاستقرار للعملة الوطنية، ويكشف بوضوح أن الهدف ليس الاقتصاد، بل الحفاظ على السيطرة الأمنية والعسكرية والخوف من فقدانها.
أما الجذر العميق للمشكلة، فهو غياب خيار الحسم العسكري في مواجهة عصابة الحوثيين، التي أجبرت الحكومة على وقف تصدير النفط والغاز، وهما المصدران الوحيدان القادران على تغذية العملة الوطنية برافعة حقيقية.
لا يمكن الحديث عن استقرار اقتصادي دون إزالة التهديد الحوثي.