مقالات
أبو الروتي (34)
بعد الهزيمة -1967- وأنا في صف أول إعدادي، انهزمت وانكسرت وانحدرت معنواتي إلى الحضيض، وأصبت بالاكتئاب، لكنها السينما أخرجتني من كآبتي، ومن جو الهزيمة، ونًسَّتني كل ما يستحق النسيان.
وبعد أن توقفت لأشهر عن الذهاب إلى السينما من أجل خاطر أخي، عُدت إليها وأنا أكثر شوقا وأكثر شغفا، لكن صاحبي وصديقي فضحني أمام أخي سيف، ولم يكن يقصد ذلك. كان من أبناء عدن ومن أبناء حارتنا، وكان صديقا لي أتبادل معه القصص والمجلات. وقد ذهبنا ليلتها إلى السينما معا، ودخلنا فيلم: "إسماعيل ياسين في الجيش".
وفي اليوم التالي، وقد جاء لشراء الرُّوتي، راح يضحك، ويذكِّرني ببعض المشاهد المضحكة في الفيلم، وكان أخي سيف حاضرا، ولم يكن في علمه أنني استأنفت الذهاب إلى السينما، كما لم يكن في علم صديقي أنني أذهب إلى السينما من دون علم أخي.
وفيما راح يكلمني عن الفيلم، ويواصل الضحك، التفت أخي سيف نحوي، وقال يسألني، وقد قست ملامحه، واكتسى وجهه بالغضب:
"من صدق رحت السينما -يا عبد الكريم؟!".
واعترفت له بأنني ذهبت، وقلت له:
"رحت، أيش فيها لو رحت السينما كلهم يروحوا؟".
وكان أخي سيف يظهر غضبه، لكنه أبدا لا يمد يده. وليلتها زعل من ردي عليه، وكان بوده لو يلطمني، والسبب أنني قلت له ذلك أمام صديقي وأمام آخرين، ولم يكن قد اعتاد منِّي على مثل هذه الردود، لكني كنت أشعر بأني قد كبرت، وأنه لم يعد من حق أحد أن يتدخل في شؤوني حتى لو كان أخي.
وبعد هذا الموقف بيوم أو يومين، تفاجأت به وأنا خارج من السينما واقفا أمامي، فاستغربت من مجيئه إلى السينما، وانزعجت من ملاحقته لي. وليلتها، وقد أبصرني بعينيه، وضبطني متلبسا بالخروج من السينما، قال لي كلاما قاسيا وجارحا، لكنني لم أرد عليه، والتزمت الصمت.
ومن يومها كان الصمت والمقاطعة هما سلاحي في مواجهته، فقد أضربت عن الكلام معه، وعن تناول الطعام في بيته، مع أن زوجته هي ابنة عمي، ولم يعد بيننا لا سلام ولا كلام ولا طعام، وكنت اتغدَّى تونة ورُوتِي وبَصَل، وأتعشَّى وأفطر جبنة ورُوتي و'شاهي'.
ومن دكان جارنا الحضرمي، كنت أشتري التونة والجبنة من مصروفي. وبالمناسبة الحضرمي هذا هو الذي عالجني من عقدتي، وجعلني أتصالح مع نفسي، ومع مهنتي، ذلك أن أحدهم وأنا أدلف إلى دكانه، اقترب مني، وقال لي:
"كيف حالك -يا بو الرُّوتي؟".
ولا أدري ما الذي حدث لي يومها، فقد انفجرت فوقه، وقلت له:
"مش أنا أبو الرُّوتي، أنا معي اسم، واسمي عبد الكريم".
وكان الرجل كبيرا في السِّن، ولم يكن يقصد إهانتي حين قال لي: "كيف حالك يا بو الرُّوتي".
وعندما أبصر الحضرمي رد فعلي الغاضب، قال لي بعد ذهاب الرجل إن خبازا مثلي يصنع الخبز للناس عليه أن يكون فخورا بمهنته، لا أن يشعر بالخجل وينفعل ويغضب لمجرد أن أحدهم ذكر مهنته، أو نسبه إليها!!
وكانت تلك أول مرة أعرف بأنني خباز، وأن مهنتي هي صناعة الخبز؛ ذلك لأن كلمة 'رُوتي' الهندية كانت تبدو غريبة عنِّي، فيما كلمة 'خبز' كلمة مألوفة، أعادتني إلى قريتي، وذكٍَرتني بهُويتي، وحررتني من عقدتي (عُقدة أبو الرُّوتي). ومن حينها لم أعد أخجل أو أغضب، وأما الذي يقولها للحط من شأني، واحتقارا لي، فكنت أرد عليه قائلا:
"أيوا أنا أبو الرُّوتي، وأفتخر بأني أبو الرُّوتي".
وفي ذات يوم، مر أستاذ من أساتذة كلية "بلقيس" على مخبزنا في 'بلوك 36' لشراء الرُّوتي، وحين تفاجأ بوجودي، أبدى دهشته، وراح يعتذر، ويقول لي إنه لم يكن يعرف أنني أكدح واشتغل في فُرن، وكان هذا الأستاذ شديدا معي، لكنه من بعد أن أبصرني في الفُرن والعَرَق يتصبَّب من جسدي، أصبح أكثر لطفا معي، حتى إنه في ذات مرة راح يمدحني أمام طلاب الفصل، ويقول لهم:
"عبد الكريم يدرس ويشتغل ويكدح".
ومنه سمعت لأول مرة كلمة 'يكدح'، ومن بعد ذلك سمعتهم يتكلمون عن العامل الكادح، وعن العمال الكادحين، والطبقة الكادحة، وكانت هذه الكلمات تثير ذاكرتي، وتعيدني إلى القرية، وتذكِّرني بواحد من أترابي اسمه "كّوْدَحْ".
وفي صف أول إعدادي، تعرَّفت على شاب حضرمي يقطن في حي المنصورة، يأتي إلى مخبزنا لشراء الرُّوتي، ولاحظت أنه يتودد إليَّ، ويتقرَّب منِّي. وفي ذات مساء، أهداني كتيِّبا للزعيم الصيني 'ماوتسي تونج'، عنوانه:
"رُبَّ شرارةٍ أحرقت السهل كله".
وراح يحدِّثني عن 'ماوتسي تونج' والثورة الصينية، وعن 'جيفارا' و'كاسترو'، وعن الثورة الكوبية، وقد أعجبت بشخصية 'جيفارا'. ثم وجدت كتابا عنه في إحدى المكتبات، فاشتريته.
وبعد عودتي إلى الفُرن، سهرت مع الكتاب، وازددت إعجابا بروحه المتمرِّدة.
وبسبب السهر، لم أستطع القيام فجرا ل"تسليط البِتَر"، وقمت بعد شروق الشمس والشيء نفسه عزا أخي سيف عدم استيقاضي فجرا لأداء عملي إلى السينما، وراح يكرر ما سبق وقاله، وهو إن السينما أفسدتني.
لكنِّي وقد قرأت ذلك الكتاب عن جيفارا الثائر المتمرِّد، استيقظت على هيئة ثائر ومتمرد، ومن يومها رفضت القيام فجرا ل'تسليط البِتَر'، وقلت للوسطاء الذين تدخلوا بيني وبين أخي:
"عملي هو صناعة الكيك والبسكويتات ولن أقوم بعمل غيره".
وعندما حاولوا يذكِّروني بأنه أخي، وعليَّ طاعته، انفجرت وقلت لهم:
"من يوم فتحنا الفُرْن، قبل سنتين، وأنا اشتغل معه مجانا، ومن دون أجر؛ لأنه أخي؛ ولأن الحالة كانت صعبة في البداية".
وتفاجأ العمُّال بكلامي، وكان في ظنهم أنني أتقاضى أجرا مقابل عملي. ثم وقد تبيَّن لهم أن ما أحصل عليه مجرد مصروف يومي، أشتري به جبنة وتونة وبَصَل لأشبع جوعي، توقفوا عن إزعاجي وإيقاظي من النوم.
ومن حينها، رحت أُسَيْنِم وأنا آمن. وبعد العودة من السينما كنت أقرأ وأسهر دون خوفٍ من أن يوقظوني في الفجر ويزعجوني.
وكان الفضل في ذلك للسيِّد 'أرنستو تشي جيفارا' الذي أيقظ في نفسي روح التمرُد.