مقالات
أبو الروتي (33)
كانت غرفتي في سقف الفُرن تضم مكتبتي الصغيرة، وكان أجمل ما فيها راديو كروي الشكل لم أعد أذكر كيف حصلت عليه، لكني من خلاله رحت أتابع الأخبار والبرامج الإذاعية من إذاعات 'عدن' و'القاهرة' و'صوت العرب'، وكذا أغاني الفنانين والفنانات، ومنه سمعت أغنية "الأطلال" لأم كلثوم، وكانت تلك أول مرة أسمع أغنية لها، وأسمع بها.
وكانت الأغاني والبرامج الثقافية هي ما يجذبني ويشدني، وأما نشرات الأخبار فلم تكن تهمُّني، لكني وقد انفجرت الحرب بين مصر وإسرائيل رحت أتابع أخبارها من إذاعتي 'القاهرة' و'صوت العرب'، وأسمع تعليقات أحمد سعيد.
وفي المساء، عندما يأتي الزبائن لشراء الرُّوتي، كنتُ أقدّم لهم نشرة أخبار المعارك، وأكلمهم عن الطائرات الإسرائيلية التي تم إسقاطها، وعن الدبابات التي تم تدميرها. وكان من بين الزبائن شخص من أبناء عدن ما ينفك يشكك بكل كلام أقوله، ويقول لهم معلومات عكس المعلومات التي أقولها.
وحين اقول إن المصريين أسقطوا كذا من الطائرات الإسرائيلية، أو دمّروا كذا من الدَّبابات يضحك ويسخر من كلامي ومعلوماتي أمام الزبائن، وينسب الانتصارات للإسرائيليين، وكنت أنا أزعل منه، وأقول بيني وبين نفسي:
"هذا أكيد عميل للإنجليز، ويكره جمال عبد الناصر".
وكانت الحرب بين مصر وإسرائيل قد ذكّرتني بتلك الرسالة التي وصلتني من الرئيس جمال عبد الناصر ردا على رسالتي التي بعثت بها إليه، وادأنا في صف رابع ابتدائي، لكني حين رحت أتباهى أمامهم وأحدثهم عنها لم يصدِّقوني، وراح أحد الزبائن يسخر منِّي ويهزأ بي، ويقول لي متهكماً:
"جمال عبد الناصر بكله كتب لك رسالة يا بو الرُّوتي!!".
وبعد أن أثار تعليقه موجة من الضحك، أردف قائلا:
"أكيد يا بو الرُّوتي حلمت بالمنام أنه كتب لك رسالة".
وكان الضحك يشجِّعه على المزيد من التهكُّم والسخرية، حتى لقد شعرتُ بالخجل، واستحيتُ، وتجمَّدتْ الكلمات في فمي، ولم أدرِ بماذا أردُّ عليه!!
وقال البعض، وقد شعر بمدى الحرج الذي كنت فيه:
"لو صِدق -يا بو الرُّوتي- جمال عبد الناصر أرسل لك رسالة روِّي لنا هِيْ من أجل نصدِّقك".
لكن الرسالة لم تكن موجودة معي، ولم أعد أذكر أين وضعتها!! وليلتها رحت أبحث وأفتش عنها بين أوراقي ودفاتري وأطماري، وبعد أن قلبت كل شيء في الغرفة رأساً على عقب، عثرت عليها داخل كتاب "فلسفة الثورة"، وهو الكتاب الذي وصلني مع الرسالة إلى جانب كتاب عن غزة لم أعد أذكر اسمه.
وفي اليوم التالي، نزلت من غرفتي في سقف الفُرْن والرسالة في جيبي ، ومعنوياتي مرتفعة، وحين أظهرتها للزبائن بدوا مستغربين وغير مصدِّقين، وقالوا مشككين:
"أيش عرفنا -يا بو الرُّوتي- أنها من جمال عبد الناصر؟!!".
وعندما رأيت أنهم لم يصدِّقوني أعطيت الرسالة لواحد من الموجودين، وكان مدرسا في مدرسة حكومية، وقلت له:
"سألتك بالله -يا أستاذ- تقرأ الرسالة، وتقول الصدق، هل هي من جمال عبد الناصر، والّا لا؟!!".
وبعد أن قرأ الأستاذ الرسالة، قال لهم:
"أبو الرُّوتي ما يكذبش، الرسالة من جمال عبد الناصر".
ثم وقد أكد لهم أنها من جمال عبد الناصر، راحوا ينظرون إلَّ بشيء من الاحترام والتقدير، وقال أحد الزبائن معلقا:
"أبو الرّوتي مش بسيط".
وكان قوله هذا قد رفع معنوياتي، وأشعرني بالزهو، لكن أمر الرسالة ظل مثار جدل وشك؛ ذلك أن الذين سمعوا بالرسالة كانوا حين يأتون إلى الفرن لشراء الرُّوتي يسألونني عنها، ويقولون لي وهم في شك مما سمعوه:
"هل صحيح -يا بو الرُّوتي- معك رسالة من جمال عبد الناصر؟!".
وعندما كنت أؤكد لهم صحة الكلام الذي سمعوه، كان يظهر من يشكك بكلامي.
وذات مرَّة، ارتفع صوت أحدهم، وقال لهم: "جمال عبد الناصر رئيس دولة مش هو خبَّاز لُمّا يرسل رسالة لأبو الرُّوتي".
وكان ضحك الزبائن قد أوجعني أكثر مما أوجعني تعليقه الساخر، لكن خبر الرسالة كان ما ينفك ينتشر، والمؤمنون بها يزدادون.
وفي صباح ذات يوم، حضرت البنت سميرة، وكانت فتاة بلهاء ويتيمة في ربيع عمرها تُقيم في الشارع الخلفي لشارعنا. وقالت لي إن أمها تريد أن تراني، ولم تقلْ لي لماذا تريد رؤيتي؟
وحين ذهبت معها إلى البيت، رأيت امرأة في الخمسين من عُمرها، مصابة بالشلل، ومقعدة فوق السرير. وأول ما دخلت طلبت منِّي أن أريها الرسالة، لكن الرسالة لم تكن معي، واستأذنتها بالخروج لإحضارها.
وحين عدت، خذتها، وراحت تقبِّلها، وتتمسَّح بها، وتبلِّلها بدموعها التي راحت تسيل بغزارة. ثم وقد أشبعت حاجتها، نظرت إليَّ نظرة فيها الكثير من الرّجاء والتوسل. وقالت لي كلاما لم أفهم شيئا منه.
وحين التفتُّ ناحية سميرة لأفهم ما هو الذي تريده أمها، قالت لي إنها تريد مني ان أكتب لها رسالة للرئيس جمال عبد الناصر، وقد ترددت في البداية، ثم ما لبثت أن وافقت تحت ضغط نظراتها المفعمة بالرجا..
وبعد أن وافقت، تهللت أساريرها، وطلبت من ابنتها أن تحضر ورقًا وقلمًا. وبعد أن أحضرت سميرة الورق والقلم، راحت تملي عليَّ الرسالة بصوتها المشلول، وكنت بعد كل كلام تقوله التفت ناحية ابنتها البلهاء لتترجم لي كلام أمها، وقد شعرت من كلامها بأن جمال عبد الناصر يعني لها الكثير، لكأنّه ولي من أولياء الله، أو كأنّ بمقدوره أن يشفيها من الشلل، ويجعلها تنهض من سريرها.
أتذكر بعد أن انتهيت من كتابة الرسالة أنها ناولتني عشرين شلنا.
وحين رفضت أخذها، راحت تتوسل وتترجاني أن أقبلها، وقالت بما معناه أنها سوف تعطيني المزيد حين يأتيها الرّد من جمال عبد الناصر، ويومها ذهبت مع بنتها البلهاء سميرة إلى البريد، وأرسلنا الرسالة.
وعند عودتنا من البريد، فرحت فرحًا عظيمًا حين عرفت أننا أرسلنا رسالتها إلى الرئيس جمال عبد الناصر في القصر الجمهوري بالقبَّة.
ومن بعد، صارت الأم على قلق، وكل يوم كانت ترسل بنتها لتسألني عن الرد، وهل وصل أم لا؟! وأحيانا كانت سميرة تجيء إليٍَ، وتقول لي إن حالة أمها تسوء بسبب تأخر الرَّد، وراحت تسألني عن السبب في تأخر الرَّد؟ فقلت لها إن السبب هو الحرب.
وبمجرد أن تنتهي الحرب، وينتصر جمال عبد الناصر على إسرائيل، سوف يصل الرد. ففرحت سميرة، وذهبت لتنقل كلامي إلى أمها، وفرحت الأم وراحت تدعو الله أن ينصر جمال عبد الناصر، وينصر الجيش المصري، لكن خبر الهزيمة فاجأها، وفاجأ الجميع، وماتت في اليوم نفسه الذي قدَّم فيه جمال عبد الناصر استقالته.
وبعد موتها، راحت ابنتها سميرة البلهاء تلقي المسؤولية عليَّ، وتقول لأهل الحارة، وهي تبكي، إنني تسببت في موت أمها حين وافقت على كتابة الرسالة للرئيس جمال عبد الناصر. وقالت لهم إن أمها ما كانت لتموت لو أنني رفضت كتابتها.
وكان هناك في الحارة الكثير من الهبلان مثلها، وكانوا يصدِّقونها، ويغلطوني، ويقولون لي: "والله إنك غلطان يا بو الرُّوتي".