تقارير
تحولات الصراع الإقليمي.. اليمن الحاضر الغائب
حتى عشية اندلاع الحرب الخاطفة بين إيران والكيان الإسرائيلي، كان الانطباع السائد بأنه في حال اندلاع المواجهات سيتحول الأمر إلى حرب إقليمية شاملة، إذ ستعمد طهران إلى تحريك أذرعها في المنطقة، وستغلق مضيق هرمز، وتُوجه الحوثيين بإغلاق مضيق باب المندب، وتهاجم القواعد العسكرية الأمريكية في دول الخليج في حال تدخلت واشنطن إلى جانب الكيان الصهيوني، وأن أمد الحرب سيطول إلى أقصى مدة زمنية ممكنة، وستنتهي الحرب بانهيار إيران ومن بقي من وكلائها.
لكن المواجهات بين الطرفين انتهت سريعا دون أن يحدث أي شيء مما كان متوقعا، ودون نتيجة واضحة يمكن البناء عليها لاستشراف مستقبل الإقليم وقراءة تداعيات ذلك على مجمل الأوضاع في المنطقة، خصوصا ما يتعلق بمستقبل المليشيات الطائفية التابعة لطهران، وتدخل إيران في الشؤون الداخلية لدول الجوار، ومستقبل أمن الخليج وأمن الطاقة والمضائق البحرية، والمفاوضات بشأن البرنامج النووي أو ما إذا كانت إيران ستستأنفه رغم الدمار الذي لحق بمنشآتها النووية.
بمعنى أن اتفاق وقف إطلاق النار بين الجانبين، الذي أعلن عنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، كان هشا وفرضته الوقائع الميدانية كما يبدو، فإيران وافقت على الاتفاق من قبيل الحرص على عدم التصعيد الشامل أو إطالة أمد حرب ستخسرها حتما، وإسرائيل استنفدت أهدافها في إيران ولا تقوى على تحمل خسائر عسكرية أو مدنية جراء الضربات الإيرانية.
ومع ذلك، هناك مخاوف من أن تعود المواجهات بين إيران والكيان الإسرائيلي من جديد، وربما أن اتفاق وقف إطلاق النار بين الجانبين مجرد إجراء مرحلي يلبي حاجة إسرائيل لمراجعة منظومتها الدفاعية أو تعزيزها بمنظومات دفاعية جديدة، بعدما اتضح عجز منظومتها الحالية عن التصدي الفعال للهجمات الإيرانية.
وبما أن اتفاق وقف إطلاق النار لم يتضمن بنودا مكتوبة، أو شروطا معلنة، أو ضمانات لأي طرف، ولا حتى خريطة طريق واضحة، سيظل اتفاقا هشا، وعرضة للانهيار في أي وقت، واحتمال عودة المواجهات التي قد تكون أشد عنفا مما سبق، وسط شكوك بشأن تدمير البرنامج الإيراني النووي، وما إذا كان قد تم تدميره تماما أو إلحاق أضرار معينة به يمكن إصلاحها.
- اليمن التائه في إقليم مضطرب
منذ عملية "طوفان الأقصى" في أكتوبر 2023، وما أعقبها من عدوان صهيوني وحشي على قطاع غزة ما زال مستمرا إلى اليوم، وما رافق ذلك من تصعيد إقليمي وتطورات حادة شهدتها بعض الجبهات الساخنة، وصولا إلى الحرب التي اندلعت مؤخرا بين إيران والكيان الإسرائيلي، ودخول الولايات المتحدة على خط المواجهات، كانت نتيجة كل ذلك ما يلي: انهيار حزب الله اللبناني، وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا، وانكفاء المليشيات الشيعية في العراق على نفسها، وأخيرا إلحاق أضرار بالغة بإيران وإذلالها وجرح كبريائها، وإثبات فشل إستراتيجية "الردع المتقدم" التي راهنت عليها كثيرا.
غير أن الوضع في اليمن يختلف تماما، فبدلا من أن تتضرر مليشيا الحوثيين مثلما تضررت بقية أذرع إيران، بل وحتى إيران ذاتها التي تلقت ضربات موجعة، وجد الحوثيون أنفسهم في موقع الرابح سياسيا على الأقل، دون أن يدفعوا الثمن الميداني المباشر الذي دفعه آخرون في لبنان أو سوريا أو إيران ذاتها، وهو ما يخدم تطلعاتهم الخاصة في اليمن، أو يعزز موقفهم التفاوضي لاحقا، في حال الدخول في أي تسوية سياسية.
لا شك أن الحوثيين سيتضررون كثيرا في الوقت الراهن جراء الضربات الموجعة التي تعرضت لها إيران، لكن الضرر سيقتصر على حجم الدعم الذي كانت تقدمه لهم طهران ونوعيته، بينما الوضع في الداخل لن يطاله التأثير، في ظل غياب الإرادة لدى مجلس القيادة الرئاسي والحكومة الشرعية لاستغلال التطورات الإقليمية الراهنة بما من شأنه القضاء على مليشيا الحوثيين واستعادة الدولة.
تبدو مليشيا الحوثيين حاليا في حالة ضعف، فهي مكشوفة الظهر، بعد إزاحة المظلة الإيرانية عنها ولو كان ذلك مؤقتا، ونفور مختلف القوى المحلية منها، وعدم وجود أي حليف خارجي يمكن أن يقدم لها الدعم الذي كانت تقدمه لها طهران، لكن من حسن حظ الحوثيين أن خصومهم المحليين والأجانب لا يكتفون بمدهم بأسباب البقاء، وإنما يمدونهم أيضا بأسباب النجاة من العواصف العاتية التي تعصف بهم وبرعاتهم الإقليميين، ويحولون خسائرهم المفترضة إلى مكاسب بلا أي مقابل، وهي مهازل غير مسبوقة في تاريخ الصراعات والحروب.
- انكشاف إيران ومليشياتها
واللافت أن مليشيا الحوثيين التي برزت كأنشط أذرع إيران في المنطقة وأكثرها تهورا بعد العدوان الصهيوني على قطاع غزة، من خلال تنفيذ هجمات تستهدف الكيان الإسرائيلي وتهديد الملاحة في البحر الأحمر، تلاشى حضورها بعد الهجمات الإسرائيلية على إيران، والرد الإيراني، رغم تهديدات قيادات حوثية بالوقوف إلى جانب إيران عسكريا في حال تدخل واشنطن إلى جانب إسرائيل، وهو ما لم يحدث بالفعل رغم التدخل الأمريكي، بل فقد لوحظ أن المليشيا أوقفت حتى هجماتها التي كانت تنفذها بذريعة مساندة قطاع غزة. فهل عدم تدخل الحوثيين كان بتعليمات من إيران في إطار حرصها على عدم التصعيد، أم أنهم فضلوا التراجع خشية تعرضهم لضربات موجعة؟
لا يمكن فصل موقف الحوثيين عن السياق العام للصراع، فالمحور الإيراني في حالة ضعف وتراجع، وبالتالي فإن تحرك الحوثيين بمفردهم إلى جانب إيران، سيكشف عمق الخلل في المحور الإيراني المتصدع، كما أن موقف إيران ذاتها وطبيعة ردها على الهجوم الإسرائيلي لم يكن بقدر ما تتطلبه اللحظة، فحتى في ذروة الهجوم العسكري الذي استهدف منشآتها النووية والعسكرية، جاء الرد الإيراني محدودا ومدروسا، وضمن سقف لا يوفر مبررات لإشعال حرب إقليمية شاملة، وبالتالي فإن عدم إغلاق مضيقي باب المندب وهرمز، وعدم انخراط الحوثيين في الصراع، رغم أن دورهم هامشي ولن يكون له تأثير يذكر في حرب بين قوتين إقليميتين، يعكس حرص إيران على عدم التصعيد، خشية من اندلاع حرب شاملة لن تكون نتيجتها لصالحها.§
تبدو الآن إيران والمليشيات الطائفية التابعة لها في لحظة انكشاف، فإيران تتعاطى مع التهديدات بحذر حتى وإن وصلت تلك التهديدات إلى ذروتها، بينما المليشيات الطائفية التابعة لها أصبحت عبئا عليها، رغم أن العقيدة القتالية لتلك المليشيات بُنيت أساسا على فكرة الدخول في مثل هذا النوع من الصراعات المصيرية، ويبدو أن إيران وجدت نفسها مضطرة للتخلي عن شعار "الردع المتقدم" أمام واقع ميداني لا يحتمل المغامرة، فسياسة الردع القائمة على التلويح بالرد القاسي فقدت صلاحيتها بمجرد أن تبين أن القدرة على الرد لا تعني بالضرورة الرغبة فيه، ولا توفر الحماية من الضربات الاستباقية.
واللافت في المشهد هو أن توحش إيران ومليشياتها، حين يحدث، لا يتجه إلا إلى الداخل العربي. فإيران التي عرفت كيف ترسم معالم الخراب الطائفي في اليمن ولبنان وسوريا والعراق، ظلت تحسب خطواتها جيدا حين يتعلق الأمن بالكيان الإسرائيلي أو الولايات المتحدة، وتكشف هذه الازدواجية أن صراع إيران الحقيقي لم يكن يوما مع "العدو الصهيوني" بقدر ما هو مع المحيط العربي، الذي مزقته المليشيات التابعة لإيران، وشوهته بالطائفية، وأضعفته عبر الحروب بالوكالة.
ولو أن إيران وظفت ما أنفقته على تلك المليشيات في بناء تحالفات حقيقية مع الدول العربية والإسلامية، لكان المشهد مختلفا اليوم، لكن خياراتها الطائفية، وأدواتها التخريبية، أدت إلى عزلتها، وأفقدتها التعاطف حتى من الشعوب التي كانت تتماهى مع خطابها المقاوم.
- إعادة تدوير الصراع
وفيما يتعلق بوقف إطلاق النار الذي أُعلن عنه على نحو مفاجئ من قِبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فلا يرقى لأن يكون اتفاقا بقدر ما هو هدنة تكتيكية فرضتها توازنات اللحظة، والهدف من ذلك هو إبقاء إيران ومليشياتها أدوات فعالة في يد القوى الكبرى، تُستخدم للتخويف حينا، وللابتزاز حينا آخر، ولتعزيز الوجود العسكري حين تدعو الحاجة إلى ذرائع للبقاء في المنطقة.
وهكذا تتجدد دورة الصراع، ولكن بصيغة أكثر خطورة: لا سلام مستقر، ولا حرب شاملة، بل إدارة مستمرة للأزمات، تضمن للغرب استدامة التفوق، وتبرير التدخل، وعقد صفقات سلاح بمبالغ مالية هائلة، وتوسيع قواعده العسكرية بذريعة حماية أمن المنطقة أو أمن الحلفاء، في الوقت الذي تُترك فيه الدول العربية تدفع كلفة الفوضى، دون أن تكون جزءا من اللعبة أو القرار.
وفي هذا السياق، لا يُستبعد أن تعود إيران لاحقا إلى ترميم نفوذها في الإقليم، وبناء ما يسمى محور المقاومة من جديد، مع غض الطرف عن ما تعرض له من انتكاسات، طالما أن الهدف لم يكن يوما تحقيق التوازن مع إسرائيل، وإنما مواصلة مشروع الهيمنة على الدول العربية تحت لافتة المقاومة.
والأرجح أن إيران، حتى بعد الضربات القاسية، لن تغير من طبيعة مشروعها، ولن تجري مراجعة صادقة لسلوكها، فهي قد تخسر تكتيكيا، لكنها لن تتخلى عن إستراتيجيتها طويلة الأمد. أما المليشيات التابعة لها، فقد تنكمش مؤقتا، لكنها باقية كأدوات، تستخدمها طهران في اللحظات التي تتطلب إعادة خلط الأوراق ضد جيرانها، مهما كانت كلفة ذلك على استقرار الدول والمجتمعات العربية.
أما اليمن فيبقى حاضرا غائبا، كعادته، في كل التحولات الكبرى، فهو حاضر في قلب الصراعات ومساوئها، وغائب عن تحولاتها الإيجابية في سياق مشروع استعادة الدولة وإنهاء الانقلاب الحوثي المدعوم من إيران. فبدلا من أن تشكل الضربات التي تعرضت لها إيران وبعض وكلائها فرصة تاريخية للقضاء على الحوثيين، فقد وجدوا أنفسهم خارج دائرة الاستهداف، بل والحرص على عدم زوالهم من قِبل بعض دول الجوار.
وفي ظل غياب الإرادة الجادة من جانب القوى المناهضة لهم، تحول الحوثيون من ورقة محروقة إلى ورقة قابلة لإعادة التدوير، وربما للربح السياسي أيضا، دون أن يدفعوا شيئا من كلفة الحرب، كتلك التي دفعها نظراؤهم في لبنان وسوريا، وأخيرا في إيران ذاتها.