تقارير
استمرار المشاورات.. ماذا تريد السعودية من الحوثيين؟
تتواصل المشاورات السرية بين السعودية ومليشيا الحوثيين دون معرفة الحكومة اليمنية الشرعية التي لم تبدِ أي اعتراض على تلك المشاورات أو محاولة معرفة مضمونها، بالرغم من أن تلك المشاورات تُعد إخلالا كبيرا بمبدأ التحالف العسكري ضد انقلاب مليشيا الحوثيين على السلطة الشرعية، كما أن المشاورات والزيارات المتبادلة لوفدين من الطرفين تعطي مؤشرات سوداء حول الكيفية التي تعتزم بها السعودية إنهاء الحرب في اليمن، وما سيترتب على ذلك من نتائج كارثية تشكل خطرا على مصير البلاد.
ويبدو أن المشاورات السرية بين السعودية ومليشيا الحوثيين قد قطعت أشواطا متقدمة، بعد الزيارات الأخيرة المتبادلة بين وفدين من الطرفين إلى كل من صنعاء والرياض، تلا ذلك جولة جديدة من المشاورات في سلطنة عمان، برعاية من المخابرات العمانية، قالت مصادر سياسية إنها حققت تقدما ملحوظا وتوافقات حول تأمين الأراضي السعودية من الهجمات العابرة للحدود، مقابل دفع السعودية رواتب الموظفين في مناطق سيطرة الحوثيين. ولاحقا، أقر المتحدث باسم المليشيا الحوثية، محمد عبد السلام، بعقد لقاءات بين جماعته والسعودية "على المستوى السياسي والإنساني"، في حديث نشره "منتدى مجال".
- ما دوافع الطرفين للحوار؟
تثير المشاورات والحوارات السرية بين السعودية ومليشيا الحوثيين، التي بدأت منذ العام 2016، الكثير من التساؤلات، لا سيما أن السعودية فيما يبدو هي الطرف المبادر إلى الحوار وإجراء المشاورات، مع أن الحوار بين طرفين متحاربين لا يكون إلا في حال تعذر الحسم العسكري لمصلحة أحدهما، أي الحرب المتكافئة، لكن في حالة الصراع بين السعودية ومليشيا الحوثيين، فالواضح أن هناك اختلالا كبيرا في فارق التسليح بين الطرفين، فالسعودية من بين أكثر دول العالم إنفاقا على شراء الأسلحة خلال السنوات الأخيرة، بينما مليشيا الحوثيين تعد أضعف أذرع إيران في المنطقة، وبإمكان اليمنيين القضاء عليها في حال توفرت الإرادة السياسية وتوحيد الصفوف والدعم ولو بالأسلحة الخفيفة من السعودية.
وإذا تأملنا في السياق الإقليمي والطائفي للصراع في اليمن، وباعتبار السعودية أبرز طرف رئيسي في ذلك الصراع، باعتبارها تتزعم المحور السني ضد المحور الشيعي بزعامة إيران، فإن نقاط الالتقاء بين السعودية ومليشيا الحوثيين منعدمة تماما، وفي المقابل فإن نقاط الالتقاء بين السعودية والحكومة اليمنية الشرعية وحلفائها كثيرة ومتعددة، وينبغي أن تؤسس لتحالف إستراتيجي بين الطرفين طويل الأمد لمواجهة التهديدات الإيرانية المتزايدة ضد جيرانها العرب، ودعمها السخي لمليشيات طائفية موالية لها أصبحت تطوق السعودية من معظم الجهات وتشكل خطرا متناميا على أمنها واستقرارها.
لكن ما الذي يدفع السعودية إلى الارتماء في أحضان أعدائها "العقائديين" والتآمر على من يشاركونها نفس الاهتمامات والتحديات والمصير؟ وهل تعتقد أنه بإمكانها احتواء المد الثوري الإيراني الذي جعل منها هدفا رئيسيا بزعم تحرير الأراضي المقدسة (مكة والمدينة) وأن تتبوأ إيران الزعامة الروحية للعالم الإسلامي؟ وهل وصل الغباء بالقيادة السعودية لدرجة عدم إدراك المخاطر الحقيقية المحدقة بها؟ وهل أصبحت تثق بإيران والطوائف الشيعية المتصفة بـ"التقية" السياسية والدينية أكثر من ثقتها بمن يُفترض أنهم حلفاء صادقون ومخلصون كونهم يشاركونها نفس الاهتمامات والتحديات والمصير الواحد؟
وفي المقابل، ما الذي يدفع الحوثيين إلى إجراء المشاورات والحوارات السرية مع السعودية بالرغم من تحالفهم الوثيق مع إيران التي تريد الاتخاذ منهم رأس حربة في صراعها مع السعودية، والاتخاذ من اليمن ومضيق باب المندب مركز صراع متقدم لتعزيز مكانة إيران الإقليمية وتوظيف ذلك في أزمتها مع المجتمع الدولي بشأن برنامجها النووي؟ وأين ذهبت شعارات الحوثيين العدائية ضد السعودية، وتحريضهم القبائل ضدها، والاتخاذ من تدخلها العسكري في اليمن وسيلة للتشنيع بخصومهم واتهامهم بالعمالة والارتزاق للسعودية، بينما هم يجرون معها مشاورات في الغرف المغلقة، وهم يدركون جيدا أنها بتلك الحوارات إنما تبحث عن وكلاء أو مرتزقة مخلصين تدرك جيدا أنهم سينفذون سياستها التدميرية بحق اليمن دولة وأرضا وإنسانا؟
- سباق على التخريب
قبل سنوات، كان السائد في الأوساط السياسية والإعلامية أن أي بلد تتدخل فيه إيران وتوجد فيه مليشيات طائفية عنيفة موالية لها، فإن ذلك البلد يتحول إلى خراب، غير أنه بعد عملية "عاصفة الحزم" للتحالف السعودي الإماراتي في اليمن، اتضح أن أي بلد تتدخل فيه السعودية والإمارات فإنه يتحول أيضا إلى خراب، وبما أن دولة الإمارات تمكنت من تشكيل مليشيات موالية لها في جنوب اليمن، فإن السعودية ما زالت تبحث عن مليشيات عنيفة تكون بمنزلة يدها الطولى في اليمن.
ويمكن الاتخاذ من سياسة السعودية في اليمن مدخلا لتفسير مشاوراتها السرية مع مليشيا الحوثيين، فمن المعروف أن السعودية لا تريد لليمن النهوض الاقتصادي والاستقرار السياسي والوحدة والديمقراطية والتعددية السياسية والحزبية والتداول السلمي للسلطة وحرية الرأي والتعبير، لذلك فإن مليشيا الحوثيين هي الطرف الوحيد الذي بإمكانه نسف كل ما يزعج السعودية في اليمن مما سبق ذكره، وإلى هنا تكون السعودية قد قطعت معظم المساحة الفاصلة بينها وبين مليشيا الحوثيين، ومن جانبها فإن مليشيا الحوثيين تدرك تماما ما هو المطلوب منها، وهي الآن تحاول تقديم نفسها كـ"جماعة وظيفية" لكل الأطراف الأجنبية المتدخلة في اليمن بما من شأنه خدمة أهدافها، ولذا فإن ما بقي من خلافات فهي مجرد تفاصيل يخوض الطرفان حولها مشاورات سرية وعسيرة منذ العام 2016 حتى الآن.
ففي منتصف فبراير 2020، اعترفت السعودية بأن مشاوراتها مع الحوثيين "عبر قنوات خلفية" مستمرة. وفي أواخر مارس 2020، أكد السفير السعودي لدى اليمن محمد آل جابر، في تصريح صحفي، أن حكومة بلاده تجري "محادثات يومية مع الحوثيين". إنها قصة غرام سياسي بدأت أول فصولها عام 2016 في المحادثات التي انعقدت في مدينة ظهران الجنوب السعودية، وإذا ربطنا جميع جولات المشاورات بالتطورات الميدانية، ستتكشف العديد من جوانب الغموض في العلاقة بين الطرفين.
- محاولات تطويع الحوثيين
قبل اندلاع عملية "عاصفة الحزم" بقيادة السعودية، كان زعيم مليشيا الحوثيين، عبد الملك الحوثيين، قد تعهد خطيا للسعودية بأنه سيتعاون معها وسيترك إيران، وفق ما قاله ضابط المخابرات السعودي، أنور عشقي، في حوار مع قناة "روسيا اليوم"، بتاريخ 22 أبريل 2015، أي بعد أقل من شهر على اندلاع عملية "عاصفة الحزم"، حيث قال إن عبد الملك الحوثي نفسه وعد السعودية بأنه مستعد للتعاون معها وترك إيران. ولفت عشقي إلى أن ذلك تم عن طريقه، وأنه قال يجب أن يكتب عبد الملك الحوثي ذلك التعهد وأن يوقع عليه، وأنه الحوثي بالفعل كتب ذلك التعهد ووقع عليه وأن توقيعه لا يزال في مكتبهم.
كما كشف أنور عشقي، في نفس الحوار المذكور، أن الحوثيين "خذلوا دولة من دول مجلس التعاون وأنهم سوف يضربون فئة معينة في اليمن ولم يقوموا بذلك، بل أخذوا الأموال الطائلة"، ولم يذكر اسم الدولة التي خذلها الحوثيون وأخذوا منها الأموال الطائلة، ولعلها الإمارات أو بلاده (السعودية)، ولم يذكر اسم الفئة التي وعدوا بضربها، وربما المقصود حزب الإصلاح، حسب ما كان واضحا من سياق الأحداث عندما دخل الحوثيون العاصمة صنعاء.
وهكذا تمثل تصريحات عشقي خلاصة ما تريده السعودية من مليشيا الحوثيين، أي التعاون معها وترك إيران و"ضرب فئات معينة" في اليمن، وهدم أي مشروع وطني يطمح اليمنيون إلى تحقيقه، لا سيما إذا كان سيؤثر على الوضع الداخلي للمملكة، مثل: التحول الديمقراطي، والتداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع، والتعددية السياسية والحزبية، وحرية التعبير، واستثمار مختلف ثروات البلاد بما فيها النفط بالقرب من الحدود معها، وتنشيط حركة الموانئ، والازدهار الاقتصادي، وبناء جيش وطني قوي، وغير ذلك.
ويتطلب هدم كل ما سبق ذكره، إما أن تسيطر مليشيا الحوثيين على السلطة بشكل دائم، أو تفخيخ البلاد بمحاصصات طائفية ومناطقية وجهوية، تكون فيها مليشيا الحوثيين دولة داخل الدولة، باعتبار المحاصصات في السلطة وسيلة لهدم الدول ونخرها من داخلها لتبقى في حالة موت سريري أو غير قادرة على النهوض، كما هو حال العراق ولبنان، والأهم في كلتا الحالتين أن تتعاون مليشيا الحوثيين مع السعودية وتترك إيران، وهو ما يخوض حوله الطرفان مشاورات سرية شاقة وعسيرة.