مقالات

هل أحيت وفاة الزنداني ظاهرة البروباجندا في اليمن؟

27/04/2024, 19:11:33

في خضم الجدل الذي انهمك فيه البعض على مواقع التواصل إثر رحيل الشيخ الزنداني إلى مثواه الأخير، وبعد متابعة الكثير من المقالات والمنشورات والتعليقات خطر لي سؤال: هل حضور الزنداني - رحمه الله- في خطاب محبيه أقوى من حضوره في خطاب خصومه؟ والسؤال هنا عن قوة الحضور لا طبيعة الحضور السلبي أو الإيجابي.. 

من يتابع خطاب الخصوم يجد أمامه شخصية تتحكم بعجلة الأحداث السياسية والاقتصادية والفكرية، فجميع الحروب والكوارث والأزمات السياسية والاقتصادية من فقر وتخلف وجرائم الإرهاب، والاغتيالات، وتدهور التعليم، كل ذلك وغيره كان وراءه الزنداني، بكلمة من بنات لسانه تندلع الحروب، وبإشارة من إصبعه تقوم الثورات الشعبية، وبغمزة من عينيه يسقط النظام، وهو وحده المسؤول عن إعاقة جهود جميع مفكري وتيارات الحداثة، وعرقل حركة التحديث، والتمهيد لعودة الإمامة، بل هو الأب الروحي لتنظيم القاعدة، وحركات العنف في العالم كله من شرق الكرة الأرضية في أفغانستان إلى غربها في نيويورك.

وتستند هذه الدعاوى العريضة إلى مجموعة من الاتهامات يختلط فيها الحق بالباطل، والحقيقة بالبروباجندا السوداء، التي تنطلي حتى على كثير من الأكاديميين والمثقفين، رغم بساطة تركيبها المزيّف، ومن أمثلة هذا النوع من الاتهامات دعوى وجود فتوى لتفكير أبناء الجنوب بأكملهم، وعندما تتحاور مع الكثير من مروجي هذا الفتوى، وتسألهم عن نص الفتوى، فيقولون لك: هناك آلاف الخطب موجودة بآلاف الروابط الإلكترونية. تقول لهم: حسنًا، إذن من السهل جدا أن تستخرجوا لنا من هذه الآلاف المؤلفة من الخطب عبارة واحدة فيها تكفير لشعب الجنوب حتى نشارككم الموقف من هذه الفتوى. وحينها تجد أعقلهم من يعرض عليك عبارات في تكفير الأحزاب الشيوعية والاشتراكية تراجع عنها الشيخ الزنداني في فترة لاحقة بعد مراجعات فكرية قامت بها جميع التيارات للتخلص من موروث الصراع الدموي الذي تورطت فيه جميع الأطراف من منتصف الستينات، ابتداء من الصراع بين جبهة التحرير والجبهة القومية إلى حرب 1994.

وقد كان للشهيد جار الله عمر -رحمه الله- والفقيد محمد قحطان -فرج الله كربه- دورهما العظيم في محاولة صناعة تاريخ جديد للمشترك الوطني يتجاوز هذا الصراع البعثي بين أجنحة اليمين واليسار في الصف الجمهوري، ولسنا في سياق تقييم هذه التجربة. 

ومن يتابع في الوقت نفسه خطاب محبي الشيخ الزنداني سيجد أمامه داعية ومصلح كان له دور إيجابي في الحفاظ على الإيمان في مواجهة أعاصير الفكر المادي، وموجات التمرد على الدين، والاغتراب الفكري، وكان له دوره في توعية المجتمع القبلي وتجييره للدفاع عن النظام الجمهوري والتحديث السياسي، وتخليصه من التبعية لمنظومة التسيّد الإمامية، وتوظيف طاقاته للدفاع عن مشروع سيادة الشعب، وحكمه لنفسه بنفسه، وإسقاط دعاوى الكهنوتية الإمامية بتعارض الجمهورية والديمقراطية مع الإسلام والتبشير بنظام دستوري جمهوري ديمقراطي يتصالح مع ثقافة الشعب اليمني المسلم في الوقت، الذي اضطر فيه مؤخرا الكثير من خصوم الزنداني للتصالح مع الجماعات السلفية التكفيرية المعادية للجمهورية والديمقراطية والتعددية السياسية، بل وتورط بعضهم في استيراد خلايا من المرتزقة الإسرائيليين والأمريكيين لاغتيال المئات من الأئمة وخطاب المساجد والسياسيين المدنيين الجنوبيين بفتاوى من شخصيات سلفية مخابراتية محمية في قصور أشرس أنواع ألنظمة الرأسمالية العربية..

وأقصى ما تصل إليه مبالغات محبي الزنداني تشبيهه بأويس القرني، وأبي أيوب الأنصاري.

ونشير هنا إلى دور ثقافة التوحيد السنيَّة في محاصرة خطاب المحبين، ومنعهم من الوقوع في التمجيد الذي يصل إلى درجة التقديس، كما يحدث عند أتباع المذاهب الشيعية، وبعض الطرق الصوفية.

ويمكن أن نسجل نشر بعض أنصار الفقيد لصورة مزيفة عن الجنازة قبل مراسيم الجنازة بأربع ساعات. 

ومع ذلك قد يرى البعض أن كلا الطرفين من خصوم الزنداني ومحبيه يقعان في خطيئتي صناعة الشيطان وصناعة القديس، ولسنا هنا في سياق تصويب رؤية طرف ما، ولكن دعونا نحاول قياس قوة حضور الفقيد في خطاب الخصوم والمحبين.

وفي تقديري، لو وزنا الرجل بميزان خصومه فسنجد أنفسنا أمام شخصية خطيرة وغير عادية في مسيرة البشرية، شخصية تستحق التأمل والدراسة والبحث، وأن تأخذ مكانها في التاريخ الإنساني. 

شخصية يجب أن تدرسها الأجيال لعقود وعقود لحماية كوكب الأرض من خطر هذه الشخصية المدمرة، شخصية لها تأثيرها على مستوى العالم فهو الأب الروحي لزعماء التيارات الراديكالية الإسلامية، حسب توصيف موقع العربية.

ولكن في المقابل، إذا وزنا الرجل بميزان محبيه هل سنخرج بصورة القديس المكافئة لصورة الشيطان، التي يصنعها خصومه؟ أشك في ذلك...

وعمومًا ما يشغل تفكيري في هذه الموازنة هو شعوري أننا أمام وباء يشيعه خطاب إيديولوجي يهدد العقل العلمي والموضوعي، ويعيق الأجيال من التفكير التحليلي، والتعرف على الواقع، وتفحص الأزمات والكوارث والصراعات المتراكمة؛ لأن خطاب البروباجندا يختزل أسباب كل الكوارث تحت عمامة شخص لم يكن في أغلب حياته في موقع صاحب القرار، أو في منصب حكومي سيادي، باستثناء ثلاث سنوات وصل فيها إلى عضوية مجلس الرئاسة باستحقاق ديمقراطي.

في تقديري، سيترك هذا الخطاب البروباجندي تحديات كثيرة أمام محاولات بناء عقليات يمنية جديدة متحررة من عفن الأحقاد الأيديولوجية المتراكم من صراعات السبعينات والثمانينات.

بناء عقول قادرة على كشف الدعاوى المزيفة، والتحرر من أوهام البروباجندا، التي يساهم في صناعتها أكاديميون ومثقفون كبار مع بالغ الأسف.. بناء عقول قادرة على إعادة التفكير في المسلمات والتخلص من دوغمائية القناعات المسبقة، ورفض الاطلاع على حجج الآخر، فضلا من محاولة التقمص الوجداني الذي يساعد على تعزيز ثقافة التعايش والتسامح والقبول بالآخر.

بناء عقول قادرة على التفكير الموضوعي في المشكلات وتحليل أسبابها الحقيقية وسياقاتها الداخلية والخارجية والتعرف على مساهمات جميع الأطراف في الأخطاء التاريخية، ومسؤولية جميع الأطراف عن صراع الماضي.. بناء عقول يمنية متحررة من دعاوى القداسة الوطنية، أو الدينية، أو قداسة الراديكالية الثورية، أو قداسة العنصرية العرقية..

بناء عقول يمنية جديدة متحررة من عقد بعض الكبار وأنانياتهم وعدميتهم ولا مبالاتهم العدمية تجاه المستقبل، وغرقهم في أوحال غرائز الثأر البدائية، وإصرارهم على توريث عقدهم للأجيال القادمة.

وقبل اختتام هذه السانحة، أود توجيه التحية لشخصية من أجيال الكبار، يستحق موقفه في التعامل مع وفاة الزنداني الكثير من الإجلال والتقدير والتنويه بموقف شخصية أخرى.

الموقف الأول: موقف الأستاذ الدكتور حمود العودي الذي خاض معه الفقيد الزنداني الكثير من المعارك في فترة الصراعات الأيديولوجية، وتعرض العودي للكثير من المضايقات في فترة الثمانيات، التي اختلطت فيها أدوار الأجهزة الأمنية، وأدوار الأصوات المتطرفة في اليمين واليسار، وأظن أن هذه الفترة خضعت لمراجعات عند الكثير من الأطراف الذين شاركوا فيها، على الأقل هذا ما تأكدت منه شخصياً من خلال بعض الجلسات مع بعض الشخصيات المحسوبة على التيار الإسلامي، ومن خلال حوار صحفي سابق أجريته مع الدكتور حمود العودي لملحق الوسيطة في صحيفة الجمهورية في 2007.

وعموماً لم تمنع هذه العلاقة المثقلة بهذا الموروث الصراعي الدكتور حمود العودي من تقديم النعي، واحترام مناسبة الوفاة التي هي في حقيقة الأمر لا تخص الفقيد بل تخص أهله ومحبيه وطلابه، ولم يمنع هذا الصراع من إعلان العودي من قبل تضمانه مع رموز تيار الإسلام السياسي الديمقراطي المدني في الوطن العربي الذين تعرضوا للاعتقال في السنوات الأخيرة كالمفكر التونسي راشد الغنوشي.

والموقف الثاني موقف السفير الدكتور ياسين سعيد نعمان، الذي واجه انعكاسات صراعات الماضي في علاقته بالزنداني إضافةً إلى ما أظنها دسائس أمنية حاولت تأجيج الخلاف بينه وبين الفقيد، وقد ساهم العقلاء في احتواء هذا الخلاف وبقيت آثاره.

وقد اختار السفير ياسين التزام الصمت في مناسبة الوفاة وهو سلوك مقبول من مثله في سياق ارتباطاته المعقدة بقضايا صراع أيديولوجي وسياسي له أبعاد مناطقية وموروث ثقيل من الصراع.

لا أود أن يفهم البعض من كلامي أني ضد النقد الموضوعي لأي شخص من الأحياء والأموات، ولي مقال نقدي عن الزنداني سبق أن نشرته في صحيفة "الجمهورية"، لا أود نشره حاليًا في مناسبة الوفاة، وفي سوق التهريج الدعائي، وحمى البروباجندا المسنودة من جهات إقليمية لأهداف مخابراتية.

كل ما نريد هو تعزيز قيم التفكير الموضوعي والإنصاف والتسامح والتعايش، وتجاوز الرؤية الأحادية في تقييم الصراع والأحداث والشخصيات المؤثرة في الشأن العام، وحماية الأجيال الجديدة من موروث الصراع، الذي يحاول البعض إعادة إنتاجه لخدمة مصالح خارجية لا علاقة لها بمصالح اليمن واليمنيين.

مقالات

حكاية الرجل الصفر

بعد أن التحق ب"فريق المشي المشي وتسلق الجبال" يقنا..، قال لي في ثالث رحلة: - "كيمو.. من حين التحقت بالفريق، وخرجتُ أمشي معكم.. مدري ما حدث لي!!

مقالات

ألاعيب التاريخ مع الديكتاتوريات

التاريخ غريب في إعطاء الدروس للشعوب والحكام معاً، رغم ما تنتظمه من قوانين، أو ما يمكن تسميته بالسُّننْ التاريخية، أو تقلبات التاريخ، وسقوط الدول، وتغيُّر الأنظمة عبر قرون طويلة وآلاف السنين منذ فجر التاريخ، وبقدر ما أصبحت مقدمة ابن خلدون خلاصة للتاريخ فهي أبعد ما تكون عن كل من يصل إلى السلطة.

مقالات

شغل الشاغر ليس الاَّ ..

أدري أن القضايا والموضوعات المرشّحة للكتابة كثيرة، بل غزيرة، أو كما يُقال بالعامية: "أكثر من الهمّ على القلب".. ولذلك، لن يعدم كاتب أو راغب في الكتابة، أو كل من تحكُّه يده للقبض على لجام القلم والشخبطة به، موضوعاً للكتابة مما تتقافز من موضوعات حواليه.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.