مقالات

خاطرة أخرى للعناية بالنفس

20/02/2024, 09:37:43

ليس لنفسك خطّة ولا قانون، غير أن هذا ليس أمرا محبطا؛ بل مدعاة للغبطة ومولّد للحرية. لك الحرية في تشكيلها كما تشاء؛ لكنها ليست حرية اعتباطية، ولا إشارة للعبث. فأدنى قول أو فعل يصل إليك، أو يخرج منك، هو عنصر يُضاعف عافيتك أو شوكة تثقبك. 

ما من خطّة سوى ما تجتهد أنت لابتداعه، لكنّ الناس يحبون كلّ ما هو محدد بوضوح، لديهم ارتياح لتلك الوصايا المكتوبة على شكل نقاط مرتّبة، إنّها تُشعِرهم بالسيطرة على المجهول، وتمنحهم احساسا ما بوجود خطة معيّنة يمكنهم اتباعها وصولًا لأي هدف يرغبون به؛ حتى لو كانت هذه الخطة تتنافى مع جوهر الموضوع أو تُناقضه. أيمكن وضع مخطط شامل لتغطية كاملة لمساحة النفس البشرية، وصالحة كحدّ أدنى للتعميم على كل إنسان في هذا الوجود..؟ يقول الطب النفسي إن هذا ممكن. ويُجيب علم النفس: إنّ هذا شبه مستحيل. 

نفس كلّ إنسان هي حالة فريدة لا يمكن أن تتكرر، لكل إنسان تاريخ نفسي لا يمكن لأكبر عباقرة الطب النفسي ولا علمائه أن يشرحوه بشكل دقيق، وبيقين تام. هذه النفس التي تحيا معك تشعر بها ولا تراها، تتصرف انطلاقًا منها ولا تفقه دوافعها، هي سرّ الأسرار، واللغز الذي عليك رعايته طوال الخط. لا يمكنك وضع مخطط مسبق وبشكل صارم ومغلق لرعايتها، ولا يمكن لطبيب أن يصوغ لك خطة حل تعفيك من كل مهمة ذاتية لرعاية نفسك. وإن كان لا بُد من خطة؛ فلتكن خطة مرنة تُعاود النظر فيها كلما لمحت إشارة أو اتضح لك عنصر خفي من نفسك. 

في كتاب "التنقيب في أغوار النفس"، يؤكد عالم النفس الشهير، وأحد المؤسسين لهذا المجال أنّ "كل المخططات العلاجية للطب النفسي، تلك الطرائق الدوائية المتنوعة مهما بلغ اتساعها؛ لا يمكنها أن تُحيط بشكل شامل بجميع الحالات المرضية للبشرية. وأنّ المساعي لوضع خطط علاجية صالحة للتطبيق على مختلف علل النفس؛ ليست مجدية سوى في مساحة محدودة. إنها محاولات جديرة بالتشجيع، ويمكن أن تُفيد البشر في تخفيف قسوة أتعابهم؛ لكن المساحة الأكبر من اختلالات النفس تظل منحجبة عن الطبيب والمريض معًا، وتحتاج جهدًا ذاتيًا متواصلًا من قِبل المريض نفسه، إذا ما أراد أن يستعيد عافيته بمستوى أوثق".

وعليه فالخلاصة الأولى والمعروفة للعناية بالنفس: "الإنسان طبيب نفسه"، لا أحد بمقدوره أن يشفيك كما هي قدرتك أنت. أمامك تراكم هائل للمعارف، العالم يعجّ بالوصايا النظرية والعملية. ويُمكنك أن تتبع طرقا عديدة، وتتخذ من هذا الفضاء المفتوح بين يديك ميدانًا تستدعي منه ما شئت ومتى شئت؛ لتفهم نفسك؛ مستعينًا بهذا الميراث الكبير من المعرفة البشرية. ستحتاج تطوير قدرتك على انتقاء ما هو متصل بك، وما له علاقة بجوهرك، وما يُشكل دعامة لقواك، وتلك مهمة صعبة. يُمكنك أن تستعين بأشخاص قريبين منك، هذا جيد، ويُفيد أحيانًا لتقليص الشتات وضبط البوصلة. 

في الكتاب المذكور أعلاه، يُضيف كارل يونغ وصية يقول فيها: "وفي حين تكون قدرة أعظم أطباء العالم على شفائك محدودة، يُمكن لشخص تربطك به علاقة روحية قوية، قريب منك ولديه اطلاع جيد على جزء كبير من تاريخك النفسي وأحوالك العامة والخاصة، ولديه شيء من البصيرة النفسية والتعاطف المُحِب؛ أن يساعدك للعناية بنفسك بمستوى أكبر مما لطبيب لا تربطك به سوى لحظات محدودة. جهدك الذاتي المتواصل وشخص تتخذه خليلًا، وبينكم رباط متين البنيان، لعلها مداخل أولية جيدة للعناية بالنفس". 

يبدو من قبيل التخلي عن البشر، أن تقول لهم: "دواؤك فيك، وأنت طبيب نفسك". فحين يصل تعب النفوس ببعض البشر حدّ العجز عن رعاية أنفسهم؛ يكون حديثًا كهذا قاسيًا بل ومؤذيًا للبعض، ويُعمِّق لدى الناس إحساسهم بالعجز والفشل عن رعاية ذواتهم. لكننا نتحدث لأولئك الذين يتمتعون بصحة كافية للعيش، حديثنا عن رعاية نفس لا تزال متعافية، وليس تطبيب نفس معتلة بالمفهوم العلمي للتعب النفسي، فهذه الأخيرة متروكة للطب، ومحاولاته الرائعة لاستعادة صحة البشر.

لربما يكون الشرط الأول للعناية بالنفس شرط أي حديث فعال مع نفسك، هو الوضوح، مكاشفتها بصدق. يكاد يكون من المستحيل أن يتعافى إنسان وهو يضلل نفسه. حتى حين يعتقد المرء أنه صادق كل الصدق؛ هناك احتمال أنّ في صدقه خديعة لنفسه، ذلك أنه ما من مُحقِق خارجي ليمتحن صدق ما يُصارح الإنسان به نفسه، وحتى لو وجد هذا الرقيب الخارجي، فلا قدرة له على التأكد من صحة المكاشفة. هذه المهمة العسيرة لتحقيق شرط المكاشفة بينك وبين نفسك تتطلب منك احترازا دائما لمراقبة أدق المغالطات الخفية التي تحاول نفسك تسريبها لوعيك. طريقك في ذلك، الفحص وإعادة الفحص لكل محادثة تجريها مع عالمك الباطني المتعذّر كشفه. أنت بحاجة إلى حديث متواصل مع نفسك، وبشكل منتظم، هذا أولًا. 

في محاولتك الدائمة لرعاية نفسك، تحتاج إلى محادثة مفتوحة معها. وكي لا تغدو المحادثة دورانًا مغلقًا في عالمك الباطني؛ يكون حضور شخص آخر مفيدا أحيانًا كثيرة. 

حين تسرد للآخر قصتك، أنت لا تبوح له بالضرورة؛ كي يقترح عليك خطوات بعينها، بل هو مسعى؛ لتمتلك وضوحًا في قصتك عند نفسك. ففي عملية البوح هذه يحدث أن تُنير لنفسك مناطقَ كانت غامضة لديك. ويكاد شرط الوضوح يتلازم مع البوح في حالات كثيرة؛ ما لم فسوف تنتهي بك المحاورة مع نفسك إلى مزيد من الضبابية، يتضخّم ما هو هامشي، ويتخذ الهامشي موقعه في المركز، وتفقد الطريق تمامًا. 

ثانيًا: أنت تقف في مواجهة عالم هائل يفيض بكل الأفكار والمقترحات: تصورات، أديان، فلسفات، نظريات، علوم. وأشياء مادية ونظرية، ولا شك أنك معرَّض كل يوم للتعامل مع هذا العالم الخارجي، ولديك عالم داخلي يتفاعل مع الخارج، ينمو، ويصعد ويهبط، يتعافى ويمرض، وكل ما يحدث لك هو نتاج هذا التفاعل بين عالمك الداخلي والعالم خارجك. على أن ما هو خارجك، قد يكون جزءا من عالمك الداخلي، وما هو في الداخل يتسرب نحو الخارج، ومهمتك تستدعي التركيز على تلك المناطق الملتبسة بين ما هو خارجك، وما تعتقد أنه جزء منك. 

بعبارة أخرى: لربما أن تطبيب النفس، إدارة شؤونها ورعايتها، تتركز في مهمة واحدة: تدبير علاقة الداخل بالخارج، إدارة توازن بين هذين العالمين، ومراقبة حدودك باستمرار، فحص ما يعبر نحوك، وما تعبر إليه، وهذا أول مبدأ في خطة العناية بالنفس، إن كان هناك من خطة ممكنة. 

لربما أن أكثر ما يربك نفس الإنسان الحديث هو أنه يحيا دون حواجز صد واعية، يمضي المرء بنوافذ مفتوحة، ولا يمانع من التعرض لكل شيء. يتحدث عن كل شيء، ويسمع ويشاهد كل شيء، وكأنه مخلوق من حديد أو حجر، تعبر السيول فوقه، بكل ما تجرفه معها من أنباء وأفكار ومواد تجمعت من كل مكان. وإذا ما صادفت نفس تحيا دونما يقظة -ومعظم سكان الأرض يحيون بهذه الطريقة- تترك ندبة هنا، وجرحًا هناك، حزنا في هذا الموضع، وخوفا في الضفة المقابلة، وفي منطقة بالجوار تحفز خيبة، وقد تأتي جملة من هذا الشخص أو ذاك وتورث نفسك شعورًا بالاحتقار... وهكذا، وهكذا تتكثف الآثار من هنا وهناك، ويظل الإنسان عرضة كل يوم لنفس الأخطار ولا ينتبه إلا وقد صارت نفسه مثقلة. 

لربما أنه متعب؛ لكنه لا يدري، متى بالضبط لامسه التعب. يصعب عليه العودة نحو الوراء وتحديد المنافذ التي تسربت منها كل تلك الكوابيس، ولا أحد بمقدوره التأكد بشكل يقيني تام من كل ثانية كانت حاملة معها لأذئ. فقط هناك شيء واحد مؤكد: لقد كانت حدودك النفسية مخترقة طوال هذه المدة، لعلك نسيت مهمتك في مراقبة حدودك جيدا، وضبط كل ما هو غريب على نفسك، فحصه جيدا، قبل السماح له بالمرور، أو رفضه، وحتى تحطيمه متى تطلب الأمر ذلك. 

أخيرًا: لماذا على المرء أن يكون واضحًا مع نفسه...؟ كي لا يغُشّها. كي لا يصطدم بالجدران، أو يسقط في فخاخ مظلمة لم يكن يعلم بوجودها. 

ماذا عن البوح للآخر...؟ هو حيلة لتعميق وضوح صورتك عند نفسك، وسيلة؛ كي تتجنب تضليلك لنفسك. ثم لماذا عليه مراقبة ما يتدفق إليه من الخارج، أوليس في ترك نوافذه مشرعة لكل ما يأتيه أمر مفيد لثرائه وتطوره الدائم...؟ ليس للإنسان طاقة على هضم كل ما يندفع إليه؛ لهذا تحتاج من فترة لأخرى إلى غلق النوافذ، وفي أقل تقدير تركها مواربة لتقليص حجم ونوعية ما تحتاجه من الخارج. هذا مفيد ويخفف من حجم العبء الذي تحتاجه نفسك لمجابهة كل الوفود الغريبة عنك. 

هذه أفكارة متداخلة، مقترحات لا شيء فيها من الخطة - كما وعدت، وعدت ثم رأيته وعدًا مضللًا، فعدلت عنه لكتابة هذه للخواطر الجزئية؛ لربما يجد فيها إنسان ما ولو فكرة واحدة جديرة بالانتباه، وفي ذلك خير كثير.

مقالات

عبد الودود مقشر وتاريخ تهامة

عبد الودود مقشر أستاذ أكاديمي جليل، وباحث مجتهد وقدير. رسالته للدكتوراة «حركة المقاومة والمعارضة في تهامة 1848- 1962م» أول دراسة علمية شاملة وجامعة عن تهامة.

مقالات

الوجود كصُدفة..تأملات عن الحرية

كلّ شيء يؤكد أنّ وجودنا مجرد صُدفة. ولدنا دون تخطيط، ولا أهداف محدّدة. كان يُفترض أن تستمر حياتنا مدفوعة بالمنطق البرئ نفسهض. لكنّنا تعرضنا لخديعة وجودية مرعبة، تورطنا في قبول تصورات أولية جعلت وجودنا مقيّدًا للأبد.

مقالات

المصائب لا تأتي فرادى!

قُدِّمَتْ صنعاء على طبق من فضة، أو ذهب، للمليشيات كما لم يحدث من قبل عبر التاريخ، التي بدورها استولت على كل مقدرات الدولة والجيش والشعب في غمضة عين من التاريخ والعالم والزمن، وتحالف أبشع رأس نظام سابق مع أبشع سلطة أمر واقع لتحقيق غاية واحدة

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.