مقالات
"آنستنا يا عِيد"… وسر الأغنية التي لا تغيب
كل عمل إبداعي متميِّز، تلتمع فكرته بالصدفة دونما إعداد مُسبق. في الباص، المقيل، في زحمة مطعم، وأنت في طابور مزدحم أو تمشي دونما هدف على الطريق العام.
قصص لا تُحصى تؤكد هذه العفوية في انبثاق الفكرة الخلاقة.
الفن الحقيقي ينشأ دائمًا دونما تخطيط مسبق، كما يقول 'ليو تولستوي' صاحب رواية "الحرب والسلام"، يولد من لحظة خاطفة، من ومضة لا يمكن تكرارها. كل ما يأتي بعدها ليس إلا محاولة لتفسير تلك اللحظة".
"آنستنا يا عيد" النغمة التي أصبحت علامة دالة على العيد في اليمن، من هذا النوع من الأعمال الفنية التي تأتي فجأة، شعرًا ولحنًا، كأن موعدًا ضرب في اللاوعي ليجمعها بالشاعر والفنان.
كانت ليلة عيد رمضانية في صنعاء في العام الثالث للثورة 1964. وصل حسين الجبري إلى مقيل كان بين الحاضرين فيه الفنان علي الآنسي والشاعر الغنائي عباس المُطاع.
باغتهم الجبري مستفسرًا: "غُدوة عيد، ما بش معاكم شي للعيد؟!".
طنَّ السؤال في رأس الشاعر المُطاع. التفت دونما ضجيج فوجد بجانبه باكت دخان فارغ. سحب غلافه الداخلي- غالبا كان السجناء يستخدمونه للكتابة- وبدأ كتابة قصيدة غنائية ستكون علامة أعياد اليمن لعقود قادمة.
القصيدة المغناة، التي يكتب لها البقاء، تولد هكذا، دونما تخطيط مسبق وطول إعداد وتأنٍ.
القصيدة الكاملة كانت طويلة، ومتشعِبة، حتى إن الشاعر كاد أن يهدر الومضة الأولى بالاسترسال بالنصائح، لكن الفنان علي الآنسي، وإن غناها كاملة في لحظتها، فقد عاد وانتقى منها ما يتكامل مع نغمة اللحن الآسر الذي انبثق في ذلك المقيل وكأنّه النغمة التي انتظرها العيد في اليمن زمنًا طويلًا.
ما يأتي سريعًا تحت ضغط الوقت يكون أجمل. "آنستنا يا عيد" للفنان علي الآنسي ليست المثال الوحيد.
كتب أبوبكر سالم أغنية "أمي اليمن" في الطائرة، وكذلك دندن بلحنها وأكمله في مخيِّلته، ونزل صنعاء ليستكمل ما أنجز في الومضة الخاطفة ويترنّم بها أمام جمهوره ومحبيه على المِنصة.
قصة أنشودة "شني المطر يا سحابة" حكاية أخرى لهذا النوع من الأغاني الخالدة. كنت أظنها جاءت بطلب من الرئيس إبراهيم الحمدي، غير أن الفنان أيوب طارش صحح المعلومة في جلسة جمعتني به قبل عدة أشهر. قال إن الرئيس أحمد الغشمي اتصل به، وكذلك بالشاعر عثمان أبو ماهر، وطلب منهما أنشودة يغنيها أيوب في حفل سيُقام بمناسبة 'موسم التشجير' في مأرب.
أراد الغشمي أن يقول إنه متمسك بأسلوب الحمدي واهتماماته التي منها 'التشجير'.
كتب عثمان أبو ماهر القصيدة في 'الهيلوكابتر' التي أقلَّته مع الفنان أيوب طارش والرئيس أحمد الغشمي. ونزل أيوب من الطايرة ليتفرَّغ بقية اليوم لتلحينها.
وفي اليوم التالي، كان صوته يصدح بواحدة من أجمل الأناشيد التي تتغنّى بالسد والحقول وأرض الجنتين، وتفوح من كلماتها ونغماتها روح اليمن.
قال أيوب: "توقفت قبل نهاية الأغنية، ولم أستطع أن أكمّلها. كدت اختنق"، كان الانقباض بعد اغتيال الرئيس الحمدي مناخًا عامًا حينها.
لن نذهب بعيدًا من أيوب. أغنية أخرى له تبدو كاشفة للمعنى الذي أحاول التقاطه من أكثر من أغنية وقصيدة.
معنى الإبداع الحقيقي، ذاك الذي يتخلَّق من التقاط ومضة تبرق في الذهن في لحظة عابرة غير مخطط لها. أجمل الأفكار تأتي دائمًا بلا 'قصدية واعية'.
حكاية أغنية "وا طائر امغرب" مثال آخر للقصيدة النادرة التي تصادفها دونما بحث أو طول انتظار.
يروي الفنان أيوب طارش قصتها بقوله إنه وجدها مكتوبة بورقة مجهولة مع رعوي في تهامة.
يضيف قائلًا: "عجبتني القصيدة، كلمات متفرِّدة، وما كنت أعرف معاني بعض الكلمات، وجدت لها لحنًا، ولكن وقتها ما عرفت مَن شاعرها، فما غنيّتها.
بحثت عنه، وطلع علي عبدالرحمن جحاف، شاعر من محافظة حجة. اتصلت به وطلبت منه أغنِّيها".
تخيل ماذا رد عليه الشاعر علي عبدالرحمن جحاف؟!
قال لأيوب: "تصدِّق ما أعرف هذه القصيدة. بعض القصائد كنت أكتبهن في ورق باكت سجارة، ولكن إذا صادفت أي قصيدة لي فلك كامل الحق تغنِّيها".
هذه أغنية لمئة سنة قادمة. أغنية أخرى ولدت في ورقة باكت سجارة آخر.
أغنية ضُرب لها موعد في الغيب. كلمات لن يكون بمقدور شاعر أن يكتبها لو خطط لها وأعد لأشهر، كتبها جحاف في 'قصدير دخاني'، ورمى بها في يد أول تهامي على طريقه.
لكن هذا النوع من القصائد المغناة تعرف طريقها جيدًا.
تلمع دون موعد في ذهن الشاعر.
وكان جحاف مشاءً، يقول من عرفوه إن أوقاتًا تمر عليه يمضي فيها أسابيع هائمًا دونما غاية قصدية من تنقلاته في حجة التهامية، وما جاورها.
يُخصب الذهن هناك في المشي كيفما اتفق في الوديان والبراري، لا أن يجلس الشاعر في مكتبه، ويغلق بابه معلنا الطوارئ داخل بيته منتظرًا الإلهام.
يكفي أن تتأمل الناس أو تراقب مشهدًا عابرًا، لتتدفق فكرة جديدة.
المشي دون هدف أو الاسترخاء يسمح للعقل بالتحرر من قيود التفكير المنظّم، مما يفسح المجال لقصيدة غنائية، لحن فارق، أن يولد في أكمل صورة.
تفاصيل الحياة اليومية، لغة الناس، وأصواتهم، كلها تشكِّل مادةً خامًا للفكرة الإبداعية.
في قصيدة "آنستنا يا عيد" تجد صورة مصغَّرة لنبض الحياة اليومية في 'باب السباح'، الجرس الصوتي لصنعاء القديمة ومفرداتها اليومية.
الملحن الفنان أيضًا، يلتقط نغمة أو إيقاعًا أثناء سماع صوت المطر أو ضجيج السوق.
الفنان علي الآنسي أستاذ في الإصغاء لوقع الحياة من حوله،
أخذ ألحانه من بكاء الطفل، صوت المؤذن، دندنة المجنون، مهجل الفلاح، كأنَّه في كل ألحانه يحاول الاقتراب من اللحن الشامل، لحن اليمن الجمعي، نغمة الأرض اليمنية.
*
أعود إلى العيد وأيقونته الغنائية، القصيدة المغنّاة، "آنستنا يا عيد"
في أداء الفنان علي الآنسي لهذه الأغنية طابع احتفالي يتماشى مع أجواء الأعياد في اليمن.
وتكمن قوة القصيدة وجمالها في عدد من السِّمات التي جعلتها خالدة في الذاكرة الشعبية طوال هذه العقود.
ابتداءً تتميَّز بالتعبير العفوي والبسيط.
لغة بسيطة وواضحة، لكنها مؤثرة، تتحدَّث مباشرة إلى الناس بلغتهم اليومية، بأسلوب يقترب من المحادثة العادية. هذا يجعلها مفهومة ومحببة لعموم الناس.
تشبه في وزنها ورنَّتها الشعرية قصيدة الكبسي: "حبوب حبوب لا تغضب"، وقصيدة الحضراني التي يرد فيها هذا البيت "والصحيح الصحيح، الكل قابض على ريح".
مقاطع قصيرة تتماشى بسلاسة مع اللحن. القافية المتتابعة والإيقاع المنتظم يسهِّلان حفظها وغناءها. هذه البساطة في البيت الشعري واللحن أساسية للأغاني التي تلتصق في ذاكرة الناس ووجدانهم.
رغم أنها قصيدة عِيدية، إلا أن مواضيعها متعددة: الفرح، الضحك، التسامح مع الآخرين، التعاطف مع الفقراء والمحتاجين: كذلك بدا الشاعر وكأنه يريد أن يتناول كل شيء في قصيدة غنائية عِيدية، حتى مواضيع اجتماعية.
ولم ينسَ "التكتيك" وهو مفردة سائدة آنذاك مع بدايات النشاط الحزبي والتنظير.
يقول في أحد مقاطع القصيدة:
وإن شي حماقه فيك
علاجها التكتيك
أوبِه أنا أعنيك
يضحك علينا العيد
عوذب من الشيطان
ولاطف الإخوان
والحائر الغلطان
وَرِّيه طريق العيد
استخدام الشاعر لنبرة مرحة وساخرة أحيانًا يعطي القصيدة نكهة خاصة، حيث يتم توجيه النصح بأسلوب ساخر واستخدام مفردات مألوفة ومحببة لدى الناس، مثل: "لبّيج"، "حبزاز"، "دحس عال العال"، وهي مفردات يتكثَّف فيها الجرس الصوتي للهجة الصنعانية.
القصيدة تستخدم قوافي متعددة ومتغيِّرة، مما يكسر الرّتابة ويضفي على الأبيات حيوية وتدفقًا طبيعيًا، وهذا التنوّع من سِمات الشعر الحُميني الذي لا يلتزم بقافية موحّدة صارمة.
كذلك يتعمّد الشاعر استخدام التسكين لخلق انسيابية ومرونة في اللحن والغناء.
اللحن، الذي أبدعه الفنان علي الأنسي، هو أساس نجاح الأغنية وانتشارها، فهو لحن مرح ومُنساب، يتماشى مع أجواء الفرح والعِيد.
نغمات تتميَّز بالبساطة والعذوبة، مما يجعل اللحن قريبًا من وجدان الناس.
استطاع الآنسي من خلاله أن يعبِّر عن أجواء العِيد ومشاعر الألفة والتسامح المرتبطة به.
يُظهر أداء الآنسي قدرته الفائقة على توصيل المشاعر، حيث يستخدم صوته الدافئ العذب لإضفاء طابع حميمي على كلمات الأغنية. هذه النغمة خلدت الأغنية في ذاكرة الأعياد اليمنية.
لا تستطيع أن تفرض أغنية لتكون علامة دائمة للعِيد، ما لم تكن حائزة -في ذاتها- على ما يمكنها من جذب اهتمام الناس ونيل إعجابهم.
أيقونة الفنان على الآنسي "آنستنا يا عيد" فرضت نفسها نغمة ملازمة لكل عيد في حياة اليمنيين؛ لأنها تستحق وليس لأي سبب آخر.
علي الانسي، وكل ما نتج عنه، ينتمي لنا -نحن اليمنيين.
لم توجد أغنية عِيدية جامعة وقادرة على منافسة أغنية الآنسي العِيدية والحلول محلها.
الجميل في هذه العفوية، التي خلقت أيقونة عِيدية في مقيل عابر، أنها تتحدّى فكرة أن الإبداع يجب أن يكون دائمًا نتاج تخطيط مسبق أو جهد مُنظّم. أحيانًا، يكفي فقط أن تكون حاضر الذِّهن، متصلًا بتفاصيل الحياة، لتخرج أفضل ما عندك في لحظة غير متوقعة.
"اضحك على الأيام
وابرد من الأوهام
وامرح مع الأنغام
وافرح بهذا العيـد
سلم على احبابك
واهلك واصـحابك
وقل لمن عابك
مبروك عليك بالعيد
الجاهـل اضـحك له
وان كـان عديم دله
ومن حنق قله
مش وقت -يا خي- عِيد
مش وقت قالت قال
ودحس عال العال
وما يهم البال
خليه لبعد العِيد
الضحكة الحلـوه
تُوَحِّد الأخوه
وتدِّيَ النشوه
وطعم جيد للعِيد
واعطف عـلى الـسائل
وادِّي له الحاصل
فدمعه السائل
يمحق عليـك العِيـد
العيد قـده في الهـاز
والبخل فيه ماجـاز
فخلي الحبزاز
عيِّدْ قد اسمه عِيد
سلام سلام يا اصحاب
يا أهل يا أنساب
عدتم جميع يا احباب
لامْثَـال هـذا العِيد