مقالات

اليمن.. الحرية أو الفناء

31/10/2025, 13:11:57

يكاد المرء يصاب بالجنون وهو يرى سفينة البلاد تُقاد في الاتجاه المعاكس تمامًا للاتجاه الصائب..

السفينة لا تُقاد مثلًا باتجاه الشمال الشرقي فيما الواجب أن تسير باتجاه الشمال مباشرة..

بل تُقاد باتجاه الجنوب والواجب أن يكون الشمال! أو العكس!

الحرية والشمولية منظومتان فكريتان مختلفتان كل الاختلاف. وجهة الواحدة منهما هي عكس وجهة الأخرى تمامًا. لا تجتمعان في مجتمع ولا تتعايشان ولا تتجاوران. حضور إحداهما نفيٌ لحضور الأخرى. الخصومة بينهما كما الخصومة بين الماء والنار. خصومة وجودية وحتمية وأبدية.

أما زال هناك أناس يؤثرون النظام السياسي الشمولي على النظام القائم على الحرية؟ *

في مجتمعاتنا، نعم؛ لا زال هناك من يؤثر الشمولية! أكثر من ذلك هناك من يُبشّر بها ويقاتل في صفها ويضحي لأجلها!

على الأرجح سيكون هؤلاء الناس ممن لا يُميزون بين الشيء وضده، بين الجوهرة والنفايات، بين وجه الإنسان وقفاه، بين رأسه وحذائه!
...

ما هي الحرية؟ ما جوهرها؟

الحرية ضوء باعث للمواهب، محفّز للعقول، موقظ للإرادات..

هي الثقاب، هي القدّاحة، هي الشرارة والكهرباء ومنصة إطلاق الإنسان والمجتمع. هي الطاقة الدافعة اللازمة لحياتهما وحركتهما.

الحرية وقود النفس والعقل والعمل. ضرورتها للفرد والمجتمع كضرورة الوقود أو الكهرباء للآلات والماكينات، كضرورة الماء للحياة، كضرورة الرئتين للتنفس..

الحرية روحٌ أخرى إضافية تسري في الإنسان الحر، لا يُدرك وهجها وعنفوانها سوى الإنسان الحر نفسه الممارس لها، وأحيانًا الواعي قدرها وجلالها؛ روح تمنح صاحبها طاقة إضافية، تصير معها إرادته عابرة كل الحواجز والعوائق، الجبال والبحار والصحاري، إرادة لا حد لها ولا حدود.

الحرية منحة إلهية وهبها اللهُ الإنسانَ دون سائر المخلوقات. لم يهبها لأي من المخلوقات سواه. وُهِبها الإنسانُ وحده لأنه المخلوق الوحيد المسؤول، ولأنه كذلك المخلوق الوحيد الذي وُهب الأداة التي تجعله حرًّا: العقل — أداة التفكير والمفاضلة والاختيار.

هي ما يمنح حياة الإنسان الحياة، ما يجعل حياته حيّة، هي التي تمنحها قيمة وجوهرًا وهدفًا ومعنًى وبهجة..

وكما جعل الله من الماء كل شيء حي، أي جعل "أجسام" الأشياء حية بالماء المادي، فقد جعل من الحرية كل شيء "جوهري" في الإنسان وفي حياة الإنسان حيًّا.

الماء يمنح "جسم" الإنسان الحياة والحركة، لكنها الحركة المتراخية التي تشبه حركة النُوّام. الحرية هي ما يمنح حياته جوهرًا. هي التي تُحيل هذه الحركة المتراخية المريضة إلى فاعلة ديناميكية مفعمة سريعة.

الحرية هي الحياة بعينها، وما سواها ليست حياة.
...

وما هي الشمولية؟ روح الشمولية؟

الشمولية ماكينة هائلة لطحن الإنسان والمجتمع والشعب..

شاحنة جبارة، يصير معها الشعب كما لو أنه رجل واحد دُفع تحت عجلات الشاحنة فسحقته سحقًا....

الشمولية ريحٌ فيها صِرّ تهوي بالشعب في مكان سحيق..

الشمولية برزخ يبتلع الإنسان والمجتمع، وحش يفترس الحياة والأحياء.

الشمولية نظام معطِّل للعقل، مفسد للقلب، مبدد ضوء العلم..

الشمولية نزيف في كل شيء ولكل شيء، وذبول وتبديد.

ثقب أسود يمتص الحياة، يمتص جوهرها، لبّها، تصير الحياة بنظر صاحبها بلا معنى، بلا قيمة، بلا هدف. حياة عابثة تافهة تائهة.

الشمولية نظام للرعب.. معالمه البارزة: حواجز وقيود، مقابر وسجون، رأي واحد وثقافة واحدة، حزب واحد بالمجتمع أو جماعة واحدة، وحاكم مطلق السلطات، أجهزة للقمع وميليشيا فوق القانون وفوق المجتمع. وشعب تحت الطلب دومًا، جاهز للتعبئة والتجييش والعسكرة لأهداف ليست أهدافه بالضرورة، ولا هو يعرفها، ولا هو شارك في صنعها أو تحديدها.

هو لعنة الأنظمة، ومجمع السموم المتفرقة فيها جميعًا..

بالجملة، الشمولية نظام هو الأكثر إيغالًا في الوبائية. ولا شك أن وبائية النظام الشمولي تزداد حين يكون عِرقيًّا ويؤسس نفسه على فكرة "دينية" منافية للدين الحق ومنافية للعقل..

الحياة في الدولة الشمولية كذبة كبيرة، فناء، وعدم، وهباء..
...

لأن الحرية نقيض كلي للشمولية، والشمولية نقيض كلي للحرية، وعلى النحو الذي لمحنا آنفًا، نرى الإنسان في المجتمعات الحرة يتمتع بالديناميكية والحركة السريعة والمغامرة، يميل إلى الابتكار والاكتشاف والاختراع والمنافسة والتحديث والتجديد. هو أكثر حركة وفعالية وأعظم شجاعة. لا يعرف المستحيل ولا الحدود ولا النهايات. كل النهايات لديه بدايات، وكل البدايات تفتح بدايات أخرى، وربما لو خطر له — ورأى في ذلك مصلحة ما — بأن يشق القارات كل منها إلى نصفين لفعل أو لسعى إلى ذلك.

فيما نرى الإنسان في البلاد الواقعة تحت نير الأنظمة الفاشية الشمولية خامل النفس، خائر القوى، خائفًا، مترددًا، متواكلًا. يحب التقليد والمحاكاة، مستسلمًا لواقعه، خاضعًا لفقره وتخلفه وضعفه، وللحاكم المتسلط أيضًا. حركته باهتة، تائهة، عبثية.. يتحرك "لكن كما يتحرك النُّوّام"، كحركة المحابيس في سجنهم، أو كمن يمشي والأصفاد تكبّل يديه، والقيود تلتف برجليه..
...

إن شئنا الدقة أكثر، سفينة البلاد لا تُقاد فقط بالاتجاه البحري المضاد للاتجاه المطلوب، بل تُقاد باتجاه عمودي هابط، ربما باتجاه الرمال أو الصخور، صوب أخاديد سحيقة في جوف الأرض..

هو الاتجاه ذاته الذي سقطت فيه وانتهت إليه كل البلدان التي خضعت لأنظمة فاشية شمولية في القرن الماضي.

أخدود الفاشيات الشمولية الحتمي الإلزامي المرعب..

أخدود التلاشي والانقراض والنسيان والفناء..

فناء الإنسان والمجتمع والدولة والشعب.

فناء الجوهر والروح وتلاشيهما وانقراضهما..
....

في البلدان التي تهمنا، هل انتهت الجولة الحديثة من المواجهة بين الحرية والشمولية؟ هل صارت نتيجتها محسومة؟

كلا! لم تنتهِ ولم تُحسم بعد!

والمجتمعات القوية النابهة هي التي، في حال تعثرت وسقطت، تنهض سريعًا وقويًا. وبالضرورة هي التي لا يكون سقوطها من النوع المؤدي للوفاة!
وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم..

...........

أهم خصائص النظام القائم على الحرية: لا يفرض نمطًا فكريًا سياسيًا واحدًا على الدولة والمجتمع، بل يؤمن بـ: التعدد، التنوع، المنافسة، تعدد الخيارات، حرية الشعب في انتخاب حكامه، المساواة، المواطنة، سيادة القانون، حرية التفكير والاعتقاد، ومجال واسع لحرية التعبير، ويفصل كثيرًا بين المجالين العام والخاص.
أما النظام الشمولي فخصائصه هي عكس خصائص السابق تمامًا وكليًا: يفرض بالقوة الغاشمة هيمنته الشاملة (شمولي = هيمنة شاملة) على الدولة والمجتمع من خلال فرض نمط ثقافي سياسي واحد — غالبًا هو ذاته الذي تؤمن به الفئة الحاكمة — ويصاحب ذلك منع وتحريم كل ما يخالفه أو ينافسه.. إلخ.. إلخ..

وهنا ملاحظة إضافية: الأفكار والفلسفات ليست الحكومات الغربية، ونظاما الحرية والشمولية.. مجال اهتمامهما الأساس هو المجال الداخلي للبلدان لا العلاقات الدولية. أي المجالين هو خرابنا الأساس؟ المجال الداخلي.

مقالات

أزمة الثقة في اليمن.. من انقسام الداخل إلى استغلال الخارج (1)

يواجه اليمن اليوم واحدة من أعقد أزماته التاريخية: أزمة الثقة المفقودة بين مكوناته الاجتماعية والسياسية. أزمة لم تولد من رحم الحرب الأخيرة فحسب، بل تمتد جذورها إلى قرون من الشك المتبادل والريبة المتوارثة، تلك التي حذّر منها أبو الأحرار الشهيد محمد محمود الزبيري قبل أكثر من ستة عقود، حين رأى أن داء الشك المستحكم بين القوى اليمنية أخطر على البلاد من الاستبداد نفسه.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.