مقالات

المقاومة في مواجهة حضارة عدمية

13/12/2023, 11:49:29

هذه الوحشية الصهيونية لا تهدف إلى القضاء على حماس؛ بل ترغب بإذلال الوجود العربي كله. هذا الشعور العام بالهوان هو المقصد. هدفهم إقناعك بالعجز الأبدي في مواجهتهم. إما أن تعتنق الذل كعقيدة دائمة، أو مصيرك العدم. يصدمهم أنك ما تزال تقاومهم. ويشعرون بالنصر كلما علت صرخاتك، ونجحوا في تحويلك إلى عجوز يدمن الرثاء على حاله. 

في ندوة متعلقة بأحداث غزة، تحدث مدير قناة الجزيرة السابق، وضاح خنفر، مذكرا الغرب بفكرة لا يلتفتوا لها كثيراً، قائلا: "هناك طباع للأمة العربية يعجز العقل الغربي عن وضعها في اعتباره. يعتقد الغربي أن مزيدا من القوة كفيل باستسلام المقاتل العربي بشكل نهائي؛ لكنهم لا يملكون أي إمكانية للوعي بأن لدى العربي قيما وطباعا وجدانية تأبى قبول الذل". 

يبدو الأمر كما لو أنه تمجيداً لعواطف يصعب تحديدها والتأكد من دقتها، لكن ما لا يمكن حسابه بالرياضيات، لا يمكن نفي وجوده. وفي الوقت ذاته، هو عنصر حاسم يجعل من خضوع العربي حلماً يصعب تحققه؛ أي أن عاطفة الرفض تظل حاضرة في لحظات الضعف بأشد من حضورها في لحظات القوة، ولئن كان العرب في لحظة ضعف تاريخي عام؛ غير أن ضعفهم لا يصح اتخاذه كحقيقة تبشِّر بإمكانية إخضاعهم للأبد، لمجرد امتلاكك قوة هائلة وصبّها عليهم. 

وها هي غزة حالة ساطعة، ودليل حي؛ عليهم محاولة فهمها جيدا. مستطيل جغرافي صغير وبقوة مقاومة لا تكاد تُحسب شيئاً بمعيار القوة؛ تمكنت من فرض وجودها، وأبطلت الوهم الغربي بإمكانية إخضاع العرب بشكل نهائي لمنهج القوة. 

طوال عقود ظلت أمريكا تمارس وجودها الكامل في الشرق الأوسط؛ حد إلغاء أي حضور حقيقي لقوة أخرى في المنطقة. توهمت أن بمقدورها إبقاء المنطقة العربية أشبه بسلطات مشلولة عن أي فعل. أسهمت بشكل مباشر وغير مباشر في استدامة حالة الوهن والتفكك في كامل الخارطة العربية. هذا القول لا يعني نكران المسؤولية الذاتية لدى العرب، كونهم سمحوا بتمرير الغاية الأمريكية؛ لكن حتى مع الاعتراف بالخلل العربي الداخلي؛ تظل أمريكا بنفوذها الهائل صاحبة دور لا يمكن حجبه في صناعة حالة العطالة العربية. 

غير أن سياستها العدمية هذه لن تدوم إلى الأبد. ذلك أن ناموس الوجود يقضي بانكشاف كل فعل قائم على التحايل والتلاعب بمصير البشر في أي مكان بالكوكب. فما تسببت به أمريكا في المنطقة العربية برهان كافٍ على عدم جدارة هذه الدولة بتزعّم العالم، بل وتحولها إلى خطر حقيقي وثقب يمكنه أن يحدث كارثة على مستقبل البشرية بكاملها. 

منذ البداية، تبنّت أمريكا منهج إقامة مجدها على أنقاض الآخرين، وكانت تتصرّف بسياسة تضع الرِّبح والظفر كغاية مهما كان الثمن. منهج يفصل الفعل السياسي عن أي قيمة أخلاقية. هذا هو جوهر أمريكا ولا يمكن لأي حديث نظري أن يحجب هذه الحقيقة الفكرية والمبدأ المحرك للسياسة الأمريكية منذ عقود. 

وما موقف أمريكا الصادم من إبادة غزة سوى انكشاف أكثر وضوحاً وواقعة تؤكد شناعة المبدأ الذي تتصرف به الدولة الكبرى بالعالم. دولة تحافظ على وجودها الواسع بتصدير العدم والعدمية، الموت لكل من يشكّل حاجزاً يعيق دوام نفوذها العابر للقارات. 

مرّة أخرى، الكون ليس مكاناً ميتاً كما تتصوره الحضارة الغربية. هذا الوجود لا يتحرك وفقاً للقوانين التي يدركها البشر فحسب. هناك سنن للوجود تعمل سرا وعلانية؛ وهي سنن راسخة في فلسفة التاريخ، ويدركها المتأمِّلون الكبار. هناك ما يشبه قوانين حاكمة لمصائر الأمم لا يمكن أن تستثني أحداً من الخضوع لها. كل أمة أو قوة أوغلت في تشويه القيم الأخلاقية في الحياة تدفع الثمن، وحين تستنفد كامل المساحة المتاحة لها يبدأ تآكلها البطيء وصولًا إلى انزياحها من مقدمة المسرح، وبروز قوة أخرى لتلعب الدور.

مرة أخرى، الأمر ليس تبشيرا بالغيبيات، بل هي فكرة تؤكد استحالة دوام التفوق الأمريكي للأبد، مهما بدت متماسكة، وما تزال محتفظة بكامل عناصر البقاء والهيمنة. المهم أن شرارة التمرد بدأت، وأن المناخ العام في العالم بدأ بشق قنوات بديلة. 

باختصار، أمريكا قوة غير مأمونة على حماية قداسة الحياة على هذه الأرض، بل تجلت كمهدد حقيقي للأمان العام في الكوكب: الأمان بمعناه المادي والمعنوي. قوة عظمى تضع مقدراتها رهينة لكيان محتل، وتواصل دعمه بكامل ثقلها، ودونما شعور بالحرج؛ هذا جنون صارخ.

وأمام مواقف صادمة كهذه، لا حجة تتبقى لأمريكا، ولا ستار تتغطى به كمبرر لدوام هيمنتها. هذا أكبر انكشاف لقوة عدمية تقف على رأس الحضارة، ورطة كبرى ستترك آثارا لا يمكن محوها، ويصعب حصر تداعيتها. 

أخيراً: 

 أستحضر فكرة للفيلسوف التونسي فتحي المسكيني، متسائلًا: كيف تم إفراغ العالم من المعنى..؟ يقول: "حضارتنا الحالية بحد ذاتها هي ماكينة عدميّة -تبتلعنا من ولادتنا حتى مماتنا وتحكمنا بأقصى درجة ممكنة من اللا معنى والفراغ والعبثية- لدرجة أنه من الصعب جداً أن نرى أي معنى لكل هذا الوجود المثير للشفقة. المعنى يأتي من صلتنا بالوجود، بأنفسنا، بالآخرين، وبالأرض التي نعيش علينا، والحضارة تتجه نحو البتر التام لهذه الصلات بشكل أعنف من أي وقت مضى. من الصعب أن نجد معنى وقلبنا ممنوع عن الغناء مدى الحياة، لكن ذلك حديث ليوم آخر".

لكأن هذا اليوم بدأت تباشيره، حيث الفعل المقاوم، يسترد صلتنا بأنفسنا، بالأرض التي نحيا عليها، وبالوجود العربي بشكل عام. قبل الحدث الأخير، كان قطاع عريض من البشر، الموجودين على هذه البقعة الجغرافية من العالم، يشعرون بالكآبة وتلاشي أي إحساس بمعنى عام جدير بالكفاح من أجله.

كانت الدول المتحكمة بمصير العالم تحتكر المعنى والفعل، وتلغي أي شرعية لأي قوة تحاول ابتكار معناها الخاص بوجودها، سياسياً وثقافيـاً، بدأ العربي مصيّا على هامش الوجود. لكن هذا الجو الخانق بدأ بالانزياح. لربما يكون النهج المقاوم على كل الأصعدة، مقدمة لنستعيد معنى حياتنا الخاص دونما انتظار شرعية من أحد.

مقالات

عبد الودود مقشر وتاريخ تهامة

عبد الودود مقشر أستاذ أكاديمي جليل، وباحث مجتهد وقدير. رسالته للدكتوراة «حركة المقاومة والمعارضة في تهامة 1848- 1962م» أول دراسة علمية شاملة وجامعة عن تهامة.

مقالات

الوجود كصُدفة..تأملات عن الحرية

كلّ شيء يؤكد أنّ وجودنا مجرد صُدفة. ولدنا دون تخطيط، ولا أهداف محدّدة. كان يُفترض أن تستمر حياتنا مدفوعة بالمنطق البرئ نفسهض. لكنّنا تعرضنا لخديعة وجودية مرعبة، تورطنا في قبول تصورات أولية جعلت وجودنا مقيّدًا للأبد.

مقالات

المصائب لا تأتي فرادى!

قُدِّمَتْ صنعاء على طبق من فضة، أو ذهب، للمليشيات كما لم يحدث من قبل عبر التاريخ، التي بدورها استولت على كل مقدرات الدولة والجيش والشعب في غمضة عين من التاريخ والعالم والزمن، وتحالف أبشع رأس نظام سابق مع أبشع سلطة أمر واقع لتحقيق غاية واحدة

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.