مقالات
المعنى آخر أسلحتك للبقاء
ليست المتاعب ولا الصدمات، لا الفشل ولا كل ضروب القسوة، هي ما قد تدفعك إلى الانتحار، مهما كان ما تواجهه من حياة موحشة؛ بمقدورك مجابهتها، حتى لو كنت وحيدًا جدًا وتعيش في صحراء خالية من البشر، وليس بحوزتك أي شيء مما يعينك على الحياة، ستقاتل وتقتات من أوراق الشجر، وتعصر التراب كي تستخرج الماء وتتدبر حياتك.
ليس ما يواجهك في الحياة هو ما يحدد مصيرك في العالم حياةً أو موتًا، نجاحًا أو فشلًا، بل طريقتك في التعاطي مع ما يواجهك. هذا ليس حديثًا في التنمية البشرية، بل فكرة أولية لها علاقة بطبيعتك كإنسان؛ لم تُخلق مجردًا من أسلحة البقاء، ولا شيء في الحياة أكبر من قدرتك على تطويعه وتجاوزه. وحين تنهار، فليس ذلك لكونك أعزل وعاجزًا عن المواجهة، بل لكونك أهملت أسلحتك، أو أن خللًا أصاب تصورك لنفسك والحياة، وكان يمكنك تجاوزه لو رعيت نفسك بطريقة جيدة.
نحن نعيش داخل قصة ننسجها لأنفسنا وللعالم ونعيش داخلها وتحمينا من الانهيار. البشر جميعهم يحيطون أنفسهم بسردية عن العالم، حكاية واعية أو غير واعية، يروونها عن أنفسهم، ينظرون بها للعالم، يطورونها باستمرار ويحيون بها، وحين تنهار قصتهم عن أنفسهم يستسلمون للفناء.
نحن لا ننهار حين نفقد الخبز أو الحب أو نفشل، ننهار حين تنهار الحكاية والمعنى.
الحياة قاسية يا شباب، وستظل قاسية للنهاية، وقد كانت كذلك منذ البداية، وحياتنا نحن كيمنيين مضاعفة القسوة. وحتى لو انتهت المأساة، وترتبت حياتنا وملكت كل ما تحلم به، ستظل فكرة الحياة محاطة باحتمالات التعب والفقدان والشرور المجانية، وستولد لك أحلامًا إضافية وخيبات جديدة، وعليك أن تكون مستعدًا دومًا للمواجهة.
الحياة الحديثة سوَّقت للبشر وهمًا أن غاية العيش هي السعادة والرفاهية، وأن الجميع يستحق أن يحيا بسعادة، وأن ذلك حقه الطبيعي الذي يتوجب أن يناله بسهولة. هذه فكرة مثالية وساذجة، هي صحيحة نسبيًا لكنها أغفلت بُعدًا مهمًا، هو أن الحياة صراع ودراما، واحتمالية السعادة فيها توازي احتمالية الشقاء، بل لا وجود لأي إمكانية للإحساس بالسعادة دون قدر من الشقاء، ودون قتال للإحساس بالسعادة. غير أن الرؤية التي تضخها طبيعة الحياة الحديثة جعلت الإنسان الحديث، الجيل الجديد، يميل إلى الشعور بالاستحقاق المبالغ به أكثر من ميله إلى الإحساس بواجبه؛ كي يكون جديرًا بما يزعم أنه يستحقه. وبهذا جردت البشر من قدرتهم على المواجهة، وجعلتهم أكثر هشاشة وأقل استعدادًا لاحتمال قدرهم في العالم بصلابة أكثر.
ينتحر أبناء رجال أعمال، ويعيش كادح في أقاصي الريف ويضحك ملء شدقيه كل صباح، يناور وينجح ويفشل، يقاتل الوحدة بالمهاجل، ينتزع قدره من الصخر، ويعيشها لآخر يوم في حياته. ما يعني أن مسألة الحياة لا تتعلق بما هو معك وما تفتقده، بل بنظرتك إليها، بتعريفك لماهية الحياة، وليس بما هي عليه في الواقع. لا مال ولا فقر، سواء كنت محبوبًا أو منبوذًا، حلم فشلت به، دراسة متعثرة، أو امرأة فضلت رجلًا غيرك، لا وحدتك ولا التفاف العالم حولك، لا شيء من هذا يمكنه أن يكون سببًا حتميًا لتغادر الحياة. أنت كفرد وحدك من تمثل مرتكز حياتك وتحميها، كل شيء عوامل مساعدة وجانبية في قصة الحياة.
الله، الفن، علاقتك المرتبة بأسرتك، الحب، الزواج، العلاقات، النجاح، التضامن مع الآخرين، المعرفة، الأوهام، الحقائق، قصص الجدات… كل شيء، كل شيء في الوجود يمكنك الاستثمار فيه كدروع واقية لك من الانهيار… هذه أسلحتك وعليك أن تعتني بها. المهم أن تجد ما تدور حوله، املأ حياتك بأي شيء، ولو بالاشتباك مع العالم والخروج للعراك مع رجل في الشارع، كي تشعر بمعنى وجودك. مهما كانت حياتك، بوسعك أن تجد حيلة لمواصلة العيش بوفرة وغنى، ولو على مستوى مكاسبك المعنوية وما يحميك من التلف.
هناك بشر يواجهون أقسى مما تواجه – هذه مواساة تقليدية لكنها واقعية – وربما كانت إمكانية مقاومتهم شحيحة، ومع هذا يتمكنون من النجاة بل ويتحولون لأبطال غير قابلين للهزيمة، ومصدر طاقة لا تنضب لمن حولهم. يمكنك أن تسجن اثنين من البشر وتعرضهما لنفس الظروف القاسية، أحدهما يخرج منهارًا، والآخر يخرج وقد تضاعفت قوته الداخلية وما عاد بإمكان شيء تدميره. ديستوفسكي مثال على ذلك. ما يعني أن أمر مصيرك يعتمد عليك أكثر مما يُحال إلى عوامل خارجك، باستثناء من هو مصاب بمرض يفقده قدرته الطبيعية على العيش ويجعل انهياره خارج إرادته.
أنا لا أدين هنا من يفقد القدرة على احتمال العيش، لكن من المهم أن نلجأ لتفعيل أدوات الحماية الداخلية أكثر من ميولنا لندب حظوظنا وأننا مظلومون وأن الحياة لم تنصفنا. يا صاحبي، هي هذه الحياة، وحين جئت إليها لم يمنحك أحد وعدًا أنها ستكون جنة مصغرة، بل لا يوجد أي ضمانة مسبقة لك بهذا كي تشعر بالخيبة. يمكنك أن تشعر بالخيبة، ولا أحد يملك الحق بتجريدك من حقك في البكاء وشتم العالم، لكنك ستكون مطالبًا أن تصحو في الغد وتحمل فأسك لمواجهة العالم كل يوم، كأنه أول فجر لك في الوجود، وما من حيلة للبقاء غير هذه.