مقالات

الحقيقة العارية: اليمن بين إدارة الفوضى وتجارة النفوذ

15/09/2025, 06:30:30

من يتأمل المشهد اليمني اليوم يدرك أنه لم يعد مجرد صراع داخلي بين قوى متناحرة على السلطة، بل تحول إلى عقدة جيوسياسية مفتوحة على احتمالات أبعد من جغرافيا اليمن وحدوده. فما يحدث ليس وليد لحظة عابرة، بل حصيلة تراكم طويل من التداخلات بين المحلي والإقليمي والدولي، حيث صار اليمن ساحة صراع تتقاطع فيها مشاريع الغير أكثر مما تتبلور فيها خيارات الداخل.

ولفهم هذه العقدة المركبة، لا بد أولًا من النظر إلى أدوار اللاعبين الإقليميين والدوليين، قبل العودة إلى الداخل اليمني نفسه.

- على المستوى الإقليمي:

يتضح أن دول الخليج ليست مجرد مراقب قلق من تدفق الفوضى إلى أراضيها، بل هي جزء أصيل من صناعة هذه الفوضى. فالإمارات انغمست حتى النخاع في تشكيل قوى محلية مسلحة والسيطرة على موانئ وجزر يمنية، في إطار مشروعها الجيوسياسي العابر للحدود. أما السعودية، فتنظر إلى اليمن كعمق أمني ينبغي التحكم به، ولو جاء ذلك عبر إبقائه في حالة هشاشة دائمة بدلًا من استقراره. فيما تلعب إيران دورًا لا يقل خطورة، إذ تنظر إلى اليمن كورقة ضغط في مشروعها الإقليمي، وممرًا مفتوحًا لابتزاز خصومها الخليجيين والدوليين، عبر تغذية جماعة الحوثي بالسلاح والخبرة وتحويلها إلى ذراع عسكرية تمتد نحو البحر الأحمر وباب المندب.

- أما المجتمع الدولي:

فحساباته أعقد. الولايات المتحدة وبريطانيا، ومعهما إسرائيل بصورة غير مباشرة، ينظرون إلى اليمن من زاوية أمن البحر الأحمر وباب المندب، بوصفهما شريانًا استراتيجيًا في التجارة العالمية ومسارًا بالغ الحساسية للنفوذ العسكري. وفي هذا السياق، تصبح القوى المحلية أدوات أكثر من كونها شركاء، وتُختزل الأزمة اليمنية في معادلات "ممرات آمنة" و"مكافحة الإرهاب"، بينما يغيب صوت اليمنيين أنفسهم.

- في الداخل اليمني:

تتشابك التحديات بين هشاشة الدولة وتعدد مراكز القوى. فالحوثيون يرسخون وجودهم كسلطة أمر واقع في الشمال، معتمدين على الدعم الإيراني سياسيًا ولوجستيًا، فيما يواصل المجلس الانتقالي الجنوبي – منذ قراراته الأولى عام 2019 وصولًا إلى تدابيره الأخيرة – تكريس مشروع سلطوي مواز مدعوم من الإمارات، يضعف من قدرة الشرعية على استعادة حضورها. وعلى الضفة الأخرى، يبرز واقع الساحل الغربي كحالة استثنائية من التفتت العسكري والإداري، حيث تتوزع السيطرة بين تشكيلات محلية مختلفة، لكل منها حساباتها وأجنداتها الخاصة.

وتتعمق أزمة الداخل أكثر بفعل الانقسامات الحزبية، إذ تحولت الأحزاب اليمنية من أدوات للعمل السياسي إلى جزر معزولة أو أدوات ضغط في يد القوى الإقليمية، مما أفرغ المشهد من أي إمكانية لتشكيل جبهة وطنية موحدة. يضاف إلى ذلك النفقات الكبيرة لمسؤولي الشرعية وموظفيها في الخارج، في وقت يعاني فيه اليمنيون أسوأ أزمة إنسانية واقتصادية في تاريخه الحديث، وهو ما عزز الفجوة بين السلطة والشعب.

أما الحكومة اليمنية، ورغم أزماتها البنيوية وضعف أدواتها، فقد حاولت مؤخرًا – من خلال حزمة التدابير الاقتصادية التي دشنتها في أغسطس 2025 – أن تعيد بعض مظاهر الدولة، ولو بصورة إسعافية تستهدف حياة المواطن اليومية. إلا أن عجزها عن التغلب على المعوقات الداخلية والخارجية، وفي مقدمتها عدم قدرتها على ممارسة أعمالها من الداخل، يظل عاملًا أساسيًا في ترسيخ حالة الشلل، ويفتح الباب أمام القوى المحلية والإقليمية للاستمرار في إدارة الفوضى وفق مصالحها الخاصة.

مع هذه الانقسامات الداخلية المتجذرة، التي تغذيها التدخلات الخارجية، يصبح من الضروري استشراف المستقبل بناء على موازين القوى الحالية. فما هي السيناريوهات المحتملة لهذا الصراع المستمر، وكيف يمكن أن تؤثر على مستقبل اليمن ككيان موحد؟

- السيناريوهات المحتملة:

عند قراءة موازين القوى كما هي اليوم، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات عملية — ليست أمنيات، بل احتمالات واقعية:

1. السيناريو الأكثر احتمالًا — استمرار الفوضى المُدارة

التوازنات الإقليمية تُبقي اليمن في حالة تقسيم وظيفي: شمال تحت قبضة الحوثي، جنوب بخدمات ومؤسسات موازية تحت نفوذ حلفائه، ومناطق أخرى في حالة تشتت. تتبدل الوقائع بالوتيرة التي تتيح للرعاة الخارجيين الاستفادة. هذا السيناريو يفاقم الأزمة الإنسانية ويبقي الدولة بلا قدرة حقيقية. (مرجح جدًا).

2. السيناريو الوسطي — تقاسم نفوذ مؤقت عبر تسويات إقليمية

قد يتفق الرعاة مؤقتًا على "تقاسم" النفوذ مقابل ضمان ممرات الملاحة واستئناف بعض القنوات الإنسانية والاقتصادية. هذا لا يعيد الدولة لكنه قد يمنع الانهيار الكامل ويتيح مجالًا لإدارة خدمات أساسية لسنوات. لكنه يتطلب تنسيقًا إقليميًا صعبًا ما لم تتبدل حسابات القوى الكبرى.

3. السيناريو النادر — نقطة تحول وطنية

ينشأ من داخل اليمن تحالف محلي غير مرتهن تمامًا للخارج: قيادة وطنية جديدة موحدة، أو عملية شعبية ضغطية مدعومة من مؤسسات محلية قادرة على استغلال أي "شرخ" في مصالح الرعاة. هذا السيناريو ممكن، لكنه مشروط بتغييرات إقليمية واسعة أو انهيارات استراتيجية لدى أحد اللاعبين، وهو الأبعد واقعيًا. (نادر).

- التدابير الواقعية الممكنة: مساحات ضيقة وسط العتمة

وسط انسداد الأفق السياسي، يبدو البحث عن تسوية شاملة أقرب إلى الوهم. لكن ذلك لا يعني أن كل الطرق مسدودة. فثمة مساحة ضيقة لما يمكن تسميته "التدابير الواقعية الممكنة"، وهي خطوات محدودة لكنها كفيلة بتخفيف معاناة اليمنيين وصون ما تبقى من مقومات الدولة دون حل جذري:

1. تحييد الممرات البحرية بآلية مراقبة متعددة الأطراف تضمن عدم تحويل باب المندب والساحل الغربي إلى ورقة ابتزاز بيد أي فصيل.
2. دعم التدابير الاقتصادية الحكومية التي أطلقت مطلع أغسطس 2025، بوصفها محاولة إسعافية لوقف الانهيار المعيشي وضمان استمرار آخر مظهر من مظاهر وجود الدولة، كي لا يُترك المجال للأطراف المسلحة أو الرعاة الخارجيين لتجريف ما تبقى من شرعيتها.
3. بناء توافق إنساني لا سياسي عبر وقف ممنهج لاستهداف البنية التحتية المدنية وتحييد المساعدات عن حسابات الحرب.
4. ممرات إنسانية محلية يقودها وجهاء قبائل وتقنيون إنسانيون لحماية مستشفيات أو خطوط إمداد محددة.
5. توثيق الانتهاكات والصفقات بشكل منهجي، لحفظ الأدلة وإعداد "محاكمة تاريخية" سياسية وقانونية متى تغيرت موازين القوة.

قد تبدو هذه الخطوات متواضعة، لكنها وحدها الممكنة في واقع لا يسمح برفاهية "الحلول الكبرى".

إن أخطر ما يواجه اليمن اليوم ليس فقط الحرب وما خلفته من دمار، بل إعادة صياغة الوعي العام بحيث يُعتاد على أن تُدار البلاد كأرض نزاع بالوكالة. ومع مرور الوقت، يصبح الخطر الحقيقي هو ضياع فكرة "اليمن الموحد" في وعي الأجيال القادمة.

الرهان على الداخل لم يمت تمامًا، لكنه مرهون بقدرة اليمنيين على كسر حلقة الاستتباع للخارج، واستعادة صوتهم في معادلة لم يعد فيها مكان لليدين المكبلتين. وحتى يحين ذلك، يبقى السؤال مفتوحًا: هل ما يُبنى لليمن اليوم هو دولة قابلة للحياة، أم مجرد خرائط نفوذ مرسومة على الرمال؟

مقالات

ما بين راوندا واليمن

اتجه الراونديون للجبهة الوطنية. مُسَمَّى «الجبهة الوطنية» جُزءٌ مِنْ الماضي المثير للخلاف. «جبهة 13 يونيو» عمرها قصير، وارتبطت بانقلاب المنسقيات قصيرةِ الأجل، محدودة الأثر.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.