مقالات
أبو الروتي 39 ( النهاية )
مكثتُ في عدن خمس سنوات، درستُ فيها صف رابع ابتدائي في المعهد العلمي الإسلامي، وصف خامس وصف سادس ابتدائي، وأول إعدادي وثاني إعدادي في كلية بلقيس.
وبعد خمس سنوات، كنت ما أزال ذلك الطفل الذي يرضع حليب أصابعه.
في القرية، كنت أرضع نهاراً وليلاً، وأما في عدن فكنت أرضع ليلاً فقط، وأرضع قبل النوم.
وكان من الصعب أن أنام دون أن أرضع حليب أصابعي.
ولم أكن أرضع إصبعاً وإنما كنت أرضع إصبعين من أصابع كفي اليُسرى هما "السبابة والإبهام".
كنت ألفُّ السبابة على الإبهام، وأحشر الإصبعين في فمي، وأظل أرضع إلى أن أنام.
وكان يستحيل أن أنام من دون رضاعة.
لكني، بعد خمس سنوات، في عدن وقد أكملت ثاني إعدادي شعرتُ بأنه قد حان وقت الفطام، وأن عليَّ أن أفطم نفسي تماما مثلما تفطم الأم طفلها الرضيع.
ولعدة ليالٍ، رحتُ أحاول وأعيد المحاولة، وكنتُ أفشل مثلي مثل أي مدخِّنٍ مدمنٍ يفشل في الإقلاع عن التدخين.
وذات ليلة، وقد فشلت كل محاولاتي في الإقلاع عن الرضاعة، أحضرتُ حبلًا ولفَّيتُ طرفه على معصم كفي اليُسرى، وعقدته ثم شدَدْتهُ إلى قائمة السرير، وربطته، وبقيتُ هكذا لعدة ليالٍ.
وفي الأخير، فطمتُ نفسي، وتوقفت عن الرضاعة، وانتقلتُ من الطفولة إلى الرجولة.
وفي اليوم التالي، وقد فرحت بهذا الإنجاز، وسْوست لي نفسي أن أذهب لخطبة 'كافيتا' قبل أن تفلت مني، وتعود إلى كشمير الهند.
وفي الأسبوع نفسه، الذي فطمت فيه نفسي، وتوقفت عن الرضاعة، كلمت صديقا لي عن البنت 'كافيتا'، وعن حبي لها، وعن رغبتي في خطبتها، والزواج بها، وعن خوفي من أمها فيما لو ذهبت لخطبتها.
وأخبرته عن الخطيئة التي اقترفناها، وكيف أن أمها زعلت مني عندما اعترفت لها بأنني بوَّست بنتها، وزعلت من بنتها؛ لأنها سمحت لي بتقبيلها.
وبعد أن حكيت له كل شيء بالتفصيل، راح يشجعني، ويقول لي إنه طالما أنني أحبها وأرغب في خطبتها والزواج بها، فإن أول خطوة عليَّ القيام بها هي أن أذهب مع شخص من أقاربي لخطبتها، وقال لي:
"لو أنت خطبتها ما يمكن تسافر، وبعدين حتى لو أمها شافتك وأنت تبوِّسها ما با تتكلم، ولا باتزعل؛ لأنها خطيبتك".
وبعد نصيحة صديقي، كلمت أخي سيف (كنا لا نتكلم مع بعض بسبب خلافنا حول السينما)، لكن أخي سيف أحبطني، وقال لي إنني أصغر من عمر الزواج، وأن السينما هي التي أفسدتني، وجعلتني أفكر بالبنات، وبالحب، وبأشياء سخيفة تعلمتها من دخولي السينما.
قال لي ذلك ورفض المجيء معي، وأنا زعلت منه، وذهبت إلى جدي علي إسماعيل، ورحت أترجاه أن يأتي معي ليخطبها لي. وحين سألني عنها، وعمن تكون؟!!
قلت له: "بنت عدنية".
وسألني عن اسمها؟ فقلت له: "اسمها كافيتا".
وحينها استغرب، وقال لي: "هذا مش هو اسم بنت عدنية".
قلت له: "عدنية -يا جد- وتتكلم عدني هي وأمها".
ثم سألني، وقال لي: "بنت من هي؟".
وعندها ارتبكت، فلم أكن أعرف حينها اسم أبيها.
ولحظة أبصر ارتباكي وجهلي باسم البنت التي أحبها، وأرغب في خطبتها، والزواج بها، قال لي:
"عادك زغير -يا عبد الكريم- وجدتك أرسلتك إلى عدن تدرس مش تتزوج".
ومن بيت جدي خرجت وأنا زعلان.
ولأن بيت جدي كانت في حي الخُسَاف جوار بيت طاهر بدر، أبصرتُ عند خروجي من بيت جدي البنت رشيدة طاهر بدر، وكنت ما أزال أحبها وأشتاق لرؤيتها، خصوصا وأنني لم أبصرها، ولم ألتقِ بها منذ أن غادرتُ بيت صهري محمد علي ثابت في الشيخ عثمان.
ثم إني لم أكن أعرف أن بيت أبيها طاهر بدر كان بجوار بيت جدي فقط، عرفت ذلك يومها وعن طريق الصدفة، لكني بدلا من أن أقترب منها وأسلم عليها، وأسألها عن أحوالها، مررتُ من جنبها مروراً لئيماً من دون سلام ومن دون كلام، وكأن بيننا خصام، وكل هذا لكونها أخت شريفة زوجة المناضل عبد الفتاح إسماعيل الذي كان حينها وزيرا للثقافة وشؤون الوحدة.
أيامها، وبسبب هبالتي الثورية، وبعد أن قرأت شيئا من سيرة أرنستو تشي جيفارا، أصبحت معجبا بجيفارا الثائر الذي ترك الوزارة وترك السلطة، وذهب ليواصل الثورة في نيجيريا، وفي بوليفيا. ولأن جيفارا بالنسبة لي كان قد غدا مقياسا لكل الثوار، ولأني حينها كنت واقعا تحت تأثيره، وجدتني أقف ضد النظام، وضد البنت رشيدة، وكل ذنبها أن زوج أختها من أمها صار وزيرا في نظام صرنا -نحن الطلبة- ننتقده ونتظاهر ضده، ونعتقد بأننا أكثر ثورية منه.
كانت البنت رشيدة - رحمة الله عليها - لحظة أبصرتني قد ابتسمت لي، ولوَّحت لي بيدها تحييني، وفي ظنها أنني سأقترب كي أسلم عليها، أو على الأقل سوف أرد على تحيَّتها وتلويحتها، لكني تصرفتُ مثل أي داعشي، وأشحت بوجهي بعيدا عنها، وواصلت السير باتجاه شارع الاتحاد، وعلى طريقي مررت ببائع التُّنبل، واشتريتُ منه شيئاً من ورق التُّمبل هدية مني لأم كافيتا، وذلك لمعرفتي بحبها لهذه الأوراق السحرية. فقد كانت ترسلني لشرائها حين كنت أقيم في فُرْن الحاج بشارع الاتحاد.
كنت بعد رفض أخي سيف، وجدِّي علي إسماعيل المجيء معي ، قد قررت الذهاب لوحدي لأخطب البنت التي أحببتها في الصيف، والتي بفضلها وبقوة حبي لها تحولت المدينة عدن من جحيم إلى فردوس.
ومثل كل مرة، فتحت لي كافيتا الباب، لكنها هذه المرة كانت تبدو كما لو أنها حزينة، أو مهمومة، حتى إنها لم تُطلق صرخة الفرح تلك التي تطلقها كل مرة عند وصولي. وأول ما أبصرتها شعرت بأن أمها مازالت زعلانة مني، وزعلانة منها، بعد تلك الخطيئة التي اقترفناها واعترفنا لها بها. وكان هذا الهاجس قد فاقم من مخاوفي، لكن أمها التي كانت مريضة وراقدة فوق سريرها في زيارتي الأخيرة رأيتها هذه المرة وهي بكامل صحتها وحيويتها ونشاطها.
وبعد أن سلمتُ عليها، وسلمتُ لها الهدية، رحت أعتذر لها على ما بدر منِّي في المرة الماضية. وطلبتُ منها أن تسامحني. وما لبثتُ أن كلمتها عن رغبتي في خطبة ابنتها كافيتا، وكنت أكلمها وأنا أرتجف من الانفعال، وصوتي يتهدَّج، وكان في ظني أمها سوف تصرخ فوقي، وتطردني، لكني تفاجأتُ بها تشكرني على هديتي، ثم راحت تذكِّرني بتلك الليالي التي كنت فيها أخرج من الفُرْن وقت حظر التجول لأوصل الروتي إلى بيتها.
وبعد أن ذكرتني بالخدمات التي كنت أقدمها لهما، ارتفعت معنوياتي، وظننت أنها سوف توافق على طلبي، لكنها بعد كل الكلام الحلو الذي أفرحني، وبعث الامل في نفسي، صدمتني بقولها إنها وابنتها مسافرتان صباح اليوم التالي إلى كشمير الهند:
"مسافرات بكرة -ياعبد الكريم".
وبمجرد أن قالت ذلك، دارت الدنيا في رأسي، وتعثرت الكلمات في لساني، ولم أدرِ ماذا أقول، وجلست صامتاً.
وحين قدمت لي كافيتا كأساً من العصير، تركته أمامي، ولم أشربه، وشرد عقلي بعيداً، وبدا لي كل شيء لا معنى له، ولا جدوى منه (العمل، الدراسة، والنجاح، وحتى الحب).
ورغم أنني لم أبقَ سوى ساعة أو أقل من ساعة، إلا أن تلك الساعة كانت أطول وأبطأ وأثقل ساعة مرت بي في حياتي، وبدت لي كأنها الدهر، و بقيت خلالها صامتا مثل حجر، والكلمة الوحيدة التي قلتها بعد صمت ثقيل وطويل هي: "مع السلامة".
ومن بيت كافيتا (فتاة كشمير) خرجتُ وأنا منكسرٌ، وحزينٌ، وذليلٌ، ولديَّ شعورٌ بالضياع.
ثم، وقد أغلقت كافيتا الباب خلفي، شعرتُ كما لو أن جميع الأبواب أُغلقت في وجهي باستثناء باب واحد هو باب السينما.
ويومها رحت أهيم في شوارع 'كريتر' من دون هدف، وأخبط خبط عشواء.
وفي المساء، مررت على مطعم المجد في الميدان، وطلبت نفر 'فاصوليا'. وبعد أن تعشيت، ذهبت إلى سينما هريكن (سينما مستر حمود)، وهي السينما التي دخلتها بعد وصولي من القرية، وكانت في 'الخُسَاف'، قريبة من بيت جدِّي علي إسماعيل.
ومن المفارقات أن أول فيلم دخلته بعد وصولي من القرية كان فيلم "صراع في الوادي" - بطولة عمر الشريف وفاتن حمامة. وآخر فيلم دخلته قبل خروجي من عدن وعودتي إلى القرية هو: "نهر الحب" بطولة عمر الشريف وفاتن حمامة.
وفي صباح اليوم التالي، أخبرت أخي سيف عن رغبتي في السفر إلى القرية لقضاء العطلة، ووعدته بالعودة بعد قضاء الإجازة، لكنني كنت قد كرهت الدراسة، وكرهت شغل الأفْرَان، وكرهت الأفْرَان، وبدت لي مدينة عدن كما لو أنها فرنٌ كبير، فضلا عن أن المدينة (عدن) بعد خروج المستعمرين ومجيء المحررين صارت كئيبة، ولم يعد لها ذلك البريق، وتلك الجاذبية، وكان ثمة خوف يلوح في وجوه وعيون الناس، وصار الكل يتوجَّس خوفاً من المستقبل، و كل من لديه القدرة يحمل عصاه ويرحل باتجاه الشمال، حيث الأمل ببناء حياة جديدة والبدء من جديد.
بعد خمس سنوات على مغادرتي القرية، عدت إليها، وبقيت فيها مدة شهر، وبعدها انطلقت إلى مدينة الحديدة، واشتغلت بالجيش برتبة عسكري، وبراتب قدره 75 ريالا.
وفي عصر ذات يوم، وأنا أتمشى في"باب مُشرف"، أبصرني أحدهم، وكان يعرفني من عدن، وراح يلوِّح لي من الرصيف المقابل، ويناديني قائلا، وبكل صوته:
"يا بو الرُّوتي".
النهاية