منوعات
شجرة الدوم التهامية تواجه خطر الاختفاء وتقاوم آخر أنفاسها في الأودية والواحات بسبب الإهمال
في عمق الأرياف التهامية والمناطق الصحراوية والساحلية، تبرز شجرة الدوم –أو كما تُعرف محليًا بـ«البَهْش»– كشاهدٍ حيّ على تاريخ طويل من التراث الزراعي والإنساني.
شجرة ارتبطت بذاكرة الناس وطفولتهم وحكايات الحرف اليدوية وتفاصيل الحياة اليومية، قبل أن تفرض التحولات الاقتصادية والزراعية واقعًا جديدًا يهدد وجودها.
عرفتها حضارات وادي النيل القديمة باسم ماما-إن-خنت، ثم أطلق عليها العرب اسم شجرة الدوم الطيب قبل أن يستقر الاسم الحديث: الدوم.
وفي اليمن والسودان حملت أسماء عديدة مثل: الخضلاف، الخَشَل، الخَبخوب، نخيل الحشف، الدوش، بينما عُرفت في بلاد النوبة بثمرتها المسماة هُبو، ومنها جاءت تسمية همبوكول لواحات وأحزمة الدوم هناك.
هذا الانتشار الواسع يشير إلى عمق العلاقة بين الإنسان وهذه الشجرة التي وفّرت الغذاء والمأوى والظل والمواد الخام لآلاف السنين.
لم تكن شجرة الدوم مجرد نبات بري، بل مصدر حياة لآباء الريف وصنّاع الحرف التقليدية؛ فمن سعفها صُنعت السلال والقبع والمكانس والحبال، ومن جذوعها بُنيت أسقف البيوت الريفية، كما استُخدمت أخشابها لصناعة أدوات يدوية تقليدية.
أما ثمارها فكانت وجبة موسمية وشرابًا صحيًا؛ إذ تُطحن قشرتها الخارجية لصنع عصير معروف في جنوب مصر وشمال السودان، بينما يُؤكل لبّها الرطب، وحول بذرتها الصلبة –المعروفة محليًا بـ«المقل»– نشأت ألعاب شعبية مثل الكَزّو والمداوم.
وكان الجزء الأبيض الداخلي من الثمرة يُسمّى الفِرص ويُعدّ وجبة محببة للأطفال.
تكتمل ثمرة الدوم نضجها في بداية موسم الشتاء، إلا أن كثيرين يفضلون تناولها حتى قبل نضجها الكامل.
وتتخذ الثمرة شكلًا يشبه جوز الهند، وفيها لبّ رطب وماء يُعرف محليًا باسم الليط، وهو جزء نادر ومحبوب لطعمه الخاص.
رغم أهميتها البيئية والتراثية، تعيش شجرة الدوم اليوم مرحلة خطرة من التراجع؛ ففي كثير من المناطق الريفية، أقدم المزارعون خلال العقود الأخيرة على قطع أشجار الدوم واستبدالها بمحاصيل ذات عائد مالي أكبر؛ كالموز والمانجو والمحاصيل النقدية الأخرى.
ومع غياب الوعي والرقابة تقلّصت مساحات الدوم بشكل كبير، حتى باتت بعض الأودية والواحات التي كانت مليئة بها شبه خالية.
يقول سكان القرى القديمة إن شجرة الدوم أصبحت تُرى اليوم «بالصدفة فقط»، بعدما كانت تشكل ملامح المكان وتحدد هويته الزراعية.
تراجع أشجار الدوم يعني أيضًا تراجع الحرف المرتبطة بها؛ فالسلال والقبع والمصنوعات اليدوية والخزفية التي كانت تعتمد على سعف الدوم بدأت تختفي هي الأخرى، تاركة الحرفيين في مواجهة صعبة بين الحفاظ على تراثهم وبين تغيّرات سوق العمل التي لا ترحم.
ويرى خبراء التراث والاقتصاد الريفي أن إنقاذ شجرة الدوم يبدأ من دعم الحرف التقليدية المرتبطة بها، وتشجيع إنتاج الأدوات المنزلية المصنوعة من السعف والخزف باعتبارها منتجات صحية وغير مكلفة وصديقة للبيئة.
كما أن صناعة الخزف، التي اعتمدت في بعض المناطق على ألياف وسعف الدوم، تحتاج إلى برامج دعم حكومية تشجع الأسر الريفية على الاستمرار.
شجرة الدوم ليست مجرد نبات؛ إنها ذاكرة جيل وحياة كاملة قامت عليها القرى والواحات.
وما لم تتدخل الجهات المعنية بجدية لحمايتها، ودعم الحرف المرتبطة بها، ونشر الوعي بأهميتها الصحية والتراثية، فقد نجد أنفسنا قريبًا أمام فقدان جديد لجزء مهم من تراث المنطقة الطبيعي والإنساني.