منوعات

زفاف تحت الخيام.. أعراس النازحين في مواجهة الحرب والنسيان

25/06/2025, 12:50:30
المصدر : قناة بلقيس - محمد حفيظ - خاص

في قلب مأرب، وعلى أطراف مخيم الجفينة للنازحين، تجلس أم أفراح في خيمتها المتواضعة تحاول إخفاء حزنها خلف ابتسامة مصطنعة، بينما تستعد لإقامة زفاف ابنتها البكر في خيمة صغيرة لا تكاد تتسع لأكثر من الجيران، وليس في قاعة فخمة كما حلمت.

تقول أم أفراح، النازحة من محافظة الحديدة، إنها كانت تحلم بإقامة عرس ابنتها البكر، مع كل صديقاتها، في قاعة أعراس بالأضواء والموسيقى، تغني وتفرح، لكن الحرب غيّرت كل شيء. “لكن اليوم يُقام الفرح في خيمة، ونتصنّع الضحك والسعادة كي لا نزيد الوضع حزنًا”.

مراسم في الخيام

وبحسب الأخصائية الاجتماعية روضة العامري، فإن عشرات الآلاف من النازحين في مأرب، مثل أم أفراح، فقدوا منازلهم وأحلامهم مع انطلاق الحرب قبل عشر سنوات، ودفعهم ذلك إلى النزوح القسري، الذي جعل من إقامة الأعراس تحديًا يوميًا، وسط واقع اقتصادي متدهور، وانعدام الخدمات، وغياب الاستقرار.

مشيرةً إلى أن الزواج، الذي كان مناسبة للفرح الاجتماعي الكبير، صار يقتصر على مراسم بسيطة جدًا، غالبًا ما تكون داخل خيام أو مساكن مؤقتة، تضيق بسكانها وتتسع بهم القلوب، رغم ضيق المكان.

وبحسب الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين (حكومي)، تستضيف محافظة مأرب أكثر من مليونَي نازح، يمثلون نحو 60% من إجمالي نازحي اليمن البالغ عددهم أكثر من أربعة ملايين نازح. ويعد مخيم الجفينة الأكبر في مأرب، حيث يضم ما يزيد عن 10 آلاف أسرة، تعيش في ظروف غير مستقرة.

في اليمن عمومًا، وفي زمن الحرب، اعتادت الأسر على إقامة أعراس وحفلات زفاف أبنائهم في موسم بات مألوفًا يأتي بعد عيد الأضحى، لكن طول أمد الحرب والأوضاع المعيشية كان من المتوقع أن يغيّرا من واقع وعادات اليمنيين. تقول الأخصائية الاجتماعية روضة العامري، التي تعمل في مخيم الجفينة ضمن فريق مع منظمة رأفة، إن الأسرة اليمنية النازحة والمهجّرة حاولت الحفاظ على عادات نزحت معها، وحاولت البقاء بها.

طقوس منقوصة

وتشير العامري، في لقاء مع “بلقيس”، إلى أن عادات الأعراس ومواسمها، خصوصًا في مناطق النزوح داخل مدينة مأرب، تأخذ عادات وطباع الأسر التي كانت تمارسها في مناطقها قبل النزوح، على خلاف المخيمات والنازحين في مناطق خارج مدينة مأرب، التي تتمركز في مناطق قبلية أخرى، والتي تضطر إلى التخلي عن عاداتها وممارسة عادات القبيلة التي يقع المخيم في إطارها.

إصرار اليمني على الاستمرار في ممارسة أفراحه، رغم الحرب والأحزان والأوضاع الصعبة، تقول العامري إنه أمر يدل على أن اليمني ذو صبر واسع، ويتطبع مع الأحزان والآلام، يكابدها من أجل أن يُسعد من حوله من أبناء أو بنات، وبذلك “نشاهد حفلات التخرج، وإقبال الأسر على حضور حفلات أبنائهم، ونلاحظ الأعراس مستمرة، والحياة مستمرة، ولو بمتغيرات بسيطة أو متغيرات إجبارية، إلا أنها محاولات لاستمرار الحياة الطبيعية رغم الألم الذي لن يتحمله مجتمع آخر”.

وتشير العامري إلى أن ما تغير هو آمال وطموحات الأسر، خصوصًا في كيفية إقامة أعراس أبنائهم، بين ما قبل الحرب، وما تغير اليوم أثناء الحرب وفي ظل النزوح؛ حيث كانت الآمال أن تُقام أعراس واسعة، وحفلات يشارك فيها الأهل والأصحاب، إلا أن الحرب (وهو تغيير إجباري) دفعت النازحين والأسر إلى إقامة أعراسهم وأفراحهم في المخيمات، وفي ظل شتات الأقارب وبعد الأصدقاء، حسب وصفها.

الحرب غيرت كل شيء

ذلك بالنسبة للأسر التي لديها فتاة مقبلة على الزواج، لكن للذكور مشاكل أخرى تعيق اكتمال فرحة العمر، على ما هو في أحلام الذكور وأسرهم.

حيث يقول والد العريس، النازح أيضًا من محافظة صنعاء إلى مأرب، عبدالله قبلان، لـ”بلقيس”، إن الحرب أخذت منه ومختلف النازحين “كل شيء”: لا أموال، ولا دخل، ولا حتى مكان مناسب للعرس.

“كان حلمنا نفرّح عيالنا مثل ما كنا في البلاد، لكن ما بقى إلا الخيمة، والشارع نزف العيال فيه”، ويضيف أن الغلاء والطمع لدى الناس والتجار بات مفجعًا، وبات يطغى على أي قوانين أو أعراف: “كان يمكن أن تلجأ إلى صاحب الديوان الطويل في القرية، وتقيم عرس ابنك وتستقبل الضيوف، اليوم هنا ما حد يعرف أحد، إذا معك شوالة فلوس سير استأجر قاعة بمليون، ولا ارجع خيمتك وانسَ كل ما كنت تحلم به، وتخلى عن كل العادات والقيم والقبيلة”.

عبء مادي

وفي الوقت الذي تقول فيه منظمات الأمم المتحدة إن أكثر من 80% من النازحين في اليمن لا يملكون مصدر دخل ثابت، ويعتمدون على المساعدات الإنسانية لتغطية احتياجاتهم الأساسية، تصبح تكاليف الزواج عبئًا يصعب على النازحين تحمّله.

وتقول المرشدة الاجتماعية في مخيم الجفينة، فاطمة عبدالله، في لقاء مع “بلقيس”، إن الزواج بالنسبة للنازحين صار عبئًا نفسيًا وماديًا كبيرًا، مشيرة إلى أن الحرب مزّقت النسيج الاجتماعي، وكثير من الأسر تجد صعوبة في تلبية متطلبات الزواج الأساسية، مثل المهور والحفلات وإقامة الولائم.

موضحةً أنه رغم تلك الأعباء والتحديات، تحرص الأسر على إقامة الأعراس، حتى لو كانت مقتصرة على خطوات بسيطة، لأن الزواج فعل حياة، ورمز لاستمرار الحياة والأمل، كما أنه يحيي في نفوس النازحين اليائسة، بفعل طول أمد الحرب والتشرد وغياب رؤية المستقبل.

وتتحدث عبدالله أن ذلك الوضع لا يسري على كل من في مأرب، بل إن الواقع فتح فوارق اجتماعية واضحة؛ فبينما تحاول العائلات النازحة التكيف مع ظروف العرس البسيط في خيامها، ما تزال بعض الأسر القليلة الميسورة تنفق مبالغ كبيرة لإقامة حفلات فخمة في الفنادق وصالات الأفراح، حتى في ظل الحرب، حسب وصفها.

رغم الحرب التي غيّرت ملامح الحياة في مأرب، تظل الأعراس والمناسبات الاجتماعية محاولات يومية لاستعادة شيء من التوازن والأمل. يواصل النازحون، مثل أم أفراح وآلاف الأسر، التمسك بتقاليدهم وقدرتهم على الفرح، ولو بحده الأدنى، داخل خيام بسيطة وظروف قاسية. وبين فوارق الإمكانيات والواقع المتغير، تبقى حفلات الزواج في المخيمات شاهدًا على رغبة اليمنيين في البقاء، ومقاومتهم للغياب الكامل.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.