تقارير
التصعيد الإقليمي.. إيران تكسب الوقت والوكلاء يدفعون الثمن
بعد الضربات الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت اجتماعا لحكومة مليشيا الحوثيين في صنعاء، والتي أسفرت عن مقتل عدد كبير من أعضاء الحكومة غير المعترف بها دوليا، بمن فيهم رئيس الحكومة، سارع الحرس الثوري الإيراني إلى الإعلان عن أن مليشيا الحوثيين سترد على تلك الضربات بقوة.
للوهلة الأولى، تُظهر تلك التصريحات الحرس الثوري الإيراني وكأنه الناطق الرسمي باسم مليشيا الحوثيين، لكنها تعكس حقائق أبعد من ذلك، لعل أهمها أن القرار العسكري للحوثيين هو قرار إيراني بدرجة أولى، وأن تلك التصريحات تعكس رغبة إيران في زيادة التوتر والتصعيد بعيدا عن أراضيها، بهدف كسب الوقت لتمضي في استكمال برنامجها النووي كقوة ردع ستحصنها مستقبلا ضد أي استهداف عسكري.
ويأتي في سياق ذلك أيضا دفع طهران بحزب الله اللبناني لرفض مشروع تسليم سلاحه للدولة، رغم التوتر هناك والذي ينذر بتفجر الوضع مجددا بين الحزب والكيان الإسرائيلي، وسط مؤشرات اندلاع حرب أهلية لبنانية، بيد أن إيران لا تبالي بإشعال الحرائق في ساحاتها الخلفية ما دام أن ذلك سيخدم سياستها لكسب الوقت.
ويستمر هذا الموقف الممانع لإيران في لبنان رغم الضغوط الإسرائيلية والتهديد بعودة ضرب مواقع الحزب واستهداف مخازن سلاحه، يضاف إلى ذلك ما تشهده قاعدة رياق الجوية في وادي البقاع من حركة غير مسبوقة لطائرات شحن أمريكية تحمل معدات عسكرية لدعم الجيش اللبناني، في مؤشر واضح على استعداد واشنطن لتنفيذ خطة نزع سلاح حزب الله مهما كانت التحديات.
وكان حزب الله اللبناني قد ازداد تشددا في مقترح تسليم سلاحه للدولة بعد زيارة وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، إلى لبنان، في 3 يونيو الماضي، والتي التقى خلالها بالرئيس اللبناني جوزف عون، وزعيم حزب الله نعيم قاسم.
ورغم أن الزيارة لم تكن مرتبة، وتمت بذريعة توقيع عراقجي كتاب له أصدره حديثا، لكنها اكتسبت أبعادا سياسية، وسط شكوك بأن الهدف منها حث قيادة حزب الله على رفض مقترح تسليم سلاحه للدولة، رغم تصريحات عراقجي خلال الزيارة أن بلاده لا تتدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية، وأن مسألة سلاح حزب الله شأن لبناني داخلي.
- التصعيد الإقليمي كحاجة إيرانية
منذ سنوات، تعتمد طهران مقاربة ثابتة ترتكز على تأجيل الاستحقاقات والمماطلة في مفاوضات برنامجها النووي وتفادي المواجهة المباشرة وحصرها عبر الوكلاء، فالملف النووي يمثل أولوية قصوى لها، وتحرص على أن يكون التصعيد في جبهات المنطقة غطاء يتيح لها استهلاك الوقت حتى تستكمل قدراتها الردعية.
ومن اللافت أنها لا تبالي بتوريط أذرعها بشكل مكشوف. ففي 22 أغسطس الماضي، قال وزير الدفاع الإيراني، العميد عزيز نصير زادة، إن بلاده أنشأت مصانع في بعض الدول للسلاح وبنى تحتية عسكرية، لافتا إلى أنه سيتم الكشف عنها لاحقا إذا اقتضت الحاجة، وهو بهذا التصريح يريد درء الأنظار عن إيران، وتسليطها على مليشياتها الطائفية في المنطقة، ليتم ضربها بدلا من ضرب طهران، لتدفع تلك المليشيات فاتورة النيران والدماء بذريعة تدمير مصانع السلاح، بينما تربح إيران الوقت وتتجنب خطر التصعيد حتى يقف برنامجها النووي على قدميه.
وفي سياق كسب الوقت أيضا، تماطل إيران بشأن المفاوضات المتعلقة ببرنامجها النووي، لا سيما مع اقتراب الاتفاق النووي لعام 2015 من انتهاء صلاحيته، فهي تحاول شراء الوقت عبر تأجيل التعاون الفعلي مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ويمثل ذلك جزءا من إستراتيجيتها لتخفيف الضغوط بينما تواصل تطوير قدراتها النووية.
وبهدف كسب الوقت أيضا، تواصل إيران دعم مليشياتها في الإقليم، والدفع بها نحو خطوط النار الأمامية، رغم علمها بأنه قد يترتب على ذلك خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات، أو حتى انهيار تلك المليشيات عسكريا، لكنها لا تبالي إذا كان ذلك سيخدم مصالحها على المدى المتوسط والبعيد، خصوصا في ظل التهديدات الإسرائيلية بإمكانية إعادة ضربها وإلحاق أضرار كبيرة ببرنامجها النووي.
وكان لافتا بعد حرب الاثني عشر يوما بين إيران والكيان الإسرائيلي مسنودا بالولايات المتحدة، أن إيران عاودت تهريب السلاح للحوثيين في اليمن وحزب الله اللبناني، بخلاف ما ساد من اعتقاد حينها بأن إيران ستنكفئ على نفسها وستتجه لإعادة بناء قواتها العسكرية المتضررة، وفي المقابل ستتوقف عن تقديم الدعم لأذرعها في المنطقة بعد أن ثبت عدم جدواها في اللحظات الصعبة.
وأفاد مركز أبحاث الأسلحة الحربية (CAR)، يقع مقره في بريطانيا، في تقريره الصادر في شهر سبتمبر الجاري، أن مليشيا الحوثيين ما زالت تعتمد على الدعم الخارجي (الإيراني) لتعزيز دفاعاتها الجوية وتنفيذ الهجمات، بما في ذلك الهجمات ضد السفن في البحر الأحمر، لافتا إلى أن الجزء الأكبر من المعدات التي تم الحصول عليها في الشحنات العسكرية المهربة إلى اليمن يُظهر الارتباط القوي للحوثيين مع شبكات التوريد المرتبطة بإيران.
وفي 5 سبتمبر الجاري، اتهمت الحكومة اليمنية الشرعية إيران بتهريب غازات سامة ومواد تدخل في صناعة الأسلحة الكيماوية، على دفعات، إلى مناطق سيطرة الحوثيين في اليمن.
وقال وزير الإعلام اليمني معمر الإرياني، في تصريح صحفي، إن خبراء من الحرس الثوري الإيراني يشرفون بشكل مباشر على إنشاء مصنع لإنتاج هذه الأسلحة المحرمة دوليا في اليمن، مشيرا إلى أن "مصادر مؤكدة" أفادت بأن مليشيا الحوثيين "شرعت بالفعل في تجهيز تلك المواد القاتلة، وتركيبها على صواريخ باليستية وطائرات مسيرة".
وفي وقت سابق، قال "طل ليف رام"، المراسل العسكري في صحيفة معاريف، إن مصادر في الشرق الأوسط قالت للصحيفة، يوم الأحد (11 ديسمبر 2022)، إن إيران سلمت (حينذاك) شحنة من اليورانيوم المخصب إلى مليشيا الحوثيين في اليمن، لكن أجزاء منها سقطت بالفعل في أيدي عناصر تنظيم القاعدة بمحافظة البيضاء.
وهكذا تعمل إيران على سياسة كسب الوقت والنجاة بنفسها من خلال تكثيف تهريب السلاح لمليشياتها، وإدارة التصعيد في الجبهات البعيدة عنها في سياق إدارة الصراع بالوكالة، لأن هدوء تلك الجبهات يعني أن إسرائيل ستتفرغ لإيران ذاتها، مما يعرض برنامجها النووي مجددا لخطر الضربات المباشرة.
- اليمن كساحة مجانية لإيران
حولت إيران مناطق سيطرة مليشيا الحوثيين في شمال اليمن إلى ساحة لتجريب أسلحتها وصقل مهارات كوادرها التي أرسلتها إلى اليمن لتركيب الأسلحة المهربة للحوثيين وتجميعها، بما فيها الصواريخ الانشطارية والطائرات المسيرة الحديثة وغيرها، وإدارة العمليات العسكرية التي ينفذها إيرانيون وشيعة عرب باسم مليشيا الحوثيين.
وتدفع إيران مليشيا الحوثيين إلى الصراع مع الكيان الإسرائيلي والتصعيد (الحذر)، لكن الثمن الذي يدفعه الحوثيون يفوق قدراتهم على تحمله، ويأتي في مقدمة ذلك اغتيال أعضاء حكومتهم غير المعترف بها دوليا خلال اجتماع لها في صنعاء، فضلا عن الخسائر البشرية الأخرى المتصاعدة، وتدمير ما بقي من بنية تحتية متهالكة، فضلا عن المخاطر المترتبة مستقبلا على الاتهامات لإيران بتهريب مواد كيماوية وإقامة مصانع أسلحة غير مشروعة.
وبذلك تتحمل مليشيا الحوثيين عبء التصعيد نيابة عن طهران، دون أن تحصد أي مكاسب إستراتيجية، بل على العكس تتحول إلى ساحة نزيف مستمر، بتحويلها شمالي اليمن إلى ساحة اختبار للأسلحة الإيرانية، من الصواريخ والطائرات المسيرة، وصولا إلى الاتهامات بتهريب اليورانيوم المخصب، ما يجعل اليمن في قلب معركة إقليمية لا تملك مليشيا الحوثيين قرارها.
- هل تنجو طهران؟
وفي ضوء تلك التطورات، يتضح أن إيران لا تملك خيارا آخر سوى التصعيد بالوكالة، لأن هدوء الجبهات الإقليمية يعني أن إسرائيل ستتفرغ لها، وهذا ما لا تستطيع طهران تحمله في الوقت الراهن.
بيد أن هذه السياسة محفوفة بالمخاطر، لأنه كلما زاد الضغط على وكلاء إيران، ازداد احتمال انتقال النار إلى قلب طهران نفسها. ورغم براعة المماطلة الإيرانية في كسب الوقت، فإن عقيدة الضربة الاستباقية الإسرائيلية تجعل أي خطأ في الحسابات مكلفا إلى حد لا يمكن التنبؤ به.
كما أن التصعيد الإقليمي يجري بالتوازي مع ضغوط دولية متزايدة على إيران ذاتها، فالأوروبيون فعّلوا "آلية الزناد" في الاتفاق النووي، مستبقين انتهاء صلاحية اتفاق 2015، لفرض قيود جديدة وضمان استمرار الضغوط. وفي الوقت نفسه، تستخدم واشنطن الأوروبيين كواجهة للضغط، في حين تحافظ على قنوات خلفية لإبقاء إيران تحت السيطرة دون التورط في تفاوض مباشر.
أما إيران فهي، كعادتها، ترد بالتصعيد اللفظي والتهديد بالانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي، لكنها في الواقع تماطل لتستمر في استهلاك الوقت ومراكمة أوراق القوة، بينما يتكبد وكلاؤها الدماء والخسائر، من خلال تحويل صنعاء وبيروت إلى ساحات استنزاف بالنيابة، في حين تبقى طهران في مواقع المراقب والمناور.
لكن هذه السياسة محفوفة بالمخاطر، لأنه كلما انكشف ضعف أدوات إيران، ازداد إغراء إسرائيل بالضرب المباشر، وكلما طال أمد استهلاك الوقت، ارتفعت كلفة المواجهة القادمة. وإذا كانت إيران تراهن على صبرها الإستراتيجي، وتقديم وكلائها كبش فداء، ليظل التصعيد بعيدا عنها، فإن خصومها يراهنون على أن هذا الصبر سينقلب استنزافا لا يمكن احتماله.
- إيران والحوثيون في العقيدة الإسرائيلية
وفي الجانب الآخر، لا تخفي إسرائيل عقيدتها القائمة على إزالة أي خطر يهددها قبل أن يكتمل نموه، خصوصا أن الانتصارات الأخيرة، المتمثلة في إضعاف حزب الله اللبناني وضرب المنشآت العسكرية الإيرانية واستهداف حكومة الحوثيين، أكسبت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ثقة متزايدة، وأغرتها بالاستمرار في الضربات.
كما أن استمرار تطوير المنظومة الدفاعية الإسرائيلية يجعلها أكثر استعدادا للتصعيد، ويمنحها شعورا بامتلاك اليد العليا في أي مواجهة مقبلة، وهي بذلك ترسل رسائل واضحة مفادها أنه لا نهاية للتصعيد حتى إزالة الخطر الإيراني من جذوره.
فهل فعلا إسرائيل مستعدة لإزالة الخطر الإيراني؟ أم أن إيران ستفاجئ العالم ومحيطها الإقليمي بأولى تجاربها النووية؟ والأهم من ذلك هل بامتلاك إيران للسلاح النووي سيتوقف التصعيد الإقليمي جراء توازن الردع؟ أم ستشهد المنطقة حربا من نوع آخر؟
تكمن مخاوف إسرائيل، ومن خلفها واشنطن، من امتلاك إيران سلاح نووي، ثم نقل تكنولوجيا ذلك السلاح إلى بعض وكلائها في المنطقة وربما تهريب أسلحة نووية إليهم، وما يشكله ذلك من تهديد وجودي للكيان الإسرائيلي، الذي يتمركز في مساحة جغرافية صغيرة تقع في قلب المنطقة.
وتكمن الإشكالية في أن تلك المساحة لا تحتمل حربا نووية، ويمكن إزالة إسرائيل، أو معظمها، بعدد قليل من القنابل النووية، بل وسيتضرر جراء ذلك الفلسطينيون في قطاع غزة والضفة الغربية. ورغم أن هذا السيناريو مستبعد، لكنه يمثل المحفز الرئيسي لمخاوف الكيان الإسرائيلي من البرنامج النووي الإيراني والعزم على تدميره.
ويعني كل ذلك أن الإقليم سيظل في حالة اضطراب وتصعيد مستمر إلى أن يشهد تسوية دائمة ترسم معالمها الحرائق المشتعلة في أكثر من مكان وليس طاولات الحوار والحلول السلمية.
وقد أقحم الحوثيون اليمن قسرا في خارطة الحرائق الإقليمية خدمة لإيران، تحت لافتة مساندة القضية الفلسطينية، والنتيجة أن إيران تكسب الوقت، بينما الحوثيون يدفعون فاتورة الدم والنار، كما يدفعها الضحايا الأبرياء الذين تقتلهم الطائرات الحربية الإسرائيلية.