تقارير
اتفاق التهدئة مع واشنطن.. ما ثمن الصفقة مع الحوثيين؟
في تطور مفاجئ، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 6 مايو الجاري، عن التوصل إلى اتفاق تهدئة مع مليشيا الحوثيين في اليمن، التي قال إنها طلبت من إدارته وقف الهجمات ضدها، وتعهدت بعدم استهداف السفن الأمريكية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب.
هذا الإعلان لم يأتِ في مؤتمر صحفي خاص ولا عبر بيان رسمي، وإنما كان خلال استقبال ترامب لرئيس الوزراء الكندي الجديد في البيت الأبيض، مارك كارني، وكان حديث ترامب عن الاتفاق بلهجة المنتصر، حين قال إن الحوثيين "استسلموا" وطلبوا وقف الهجمات الأمريكية، وهو ما استفز الحوثيين وسلطنة عمان التي توسطت بين الجانبين، فالحوثيون سرعان ما أعلنوا أن الاتفاق لا يشمل إسرائيل، بينما سارعت الخارجية العمانية إلى الحديث عن الاتفاق بلهجة دبلوماسية محايدة، وقالت إنه ينص على وقف متبادل للهجمات، مع التزام الحوثيين بعدم استهداف المصالح الأمريكية.
ويأتي الاتفاق بعد حملة عسكرية أمريكية شعواء ضد الحوثيين استمرت 50 يوما، واستهدفت أكثر من ألف موقع تابع للمليشيا، وفقا لوسائل إعلام غربية، وأسفرت الحملة عن مئات القتلى والجرحى من عناصر المليشيا الحوثية بينهم قادة ميدانيون، فضلا عن سقوط قتلى مدنيين، وسط تعهد ترامب بإبادة الحوثيين وتوعدهم بالجحيم، والتلويح بمهاجمة إيران، مع إبقاء باب التهدئة مفتوحا أمام الحوثيين من خلال التأكيد على وقف الهجمات ضدهم في حال توقفوا عن استهداف السفن في البحر الأحمر.
فهل يعكس ذلك الاتفاق انهيارا حقيقيا في بنية المليشيا الحوثية تحت وقع الضربات الأمريكية؟ أم أن ما جرى هو إعادة تموضع محسوبة في لحظة إقليمية ودولية مربكة؟ وهل يمثل الاتفاق بداية انسحاب أمريكي من ساحة البحر الأحمر، أم مجرد هدنة تكتيكية ستُستأنف بعدها جولة جديدة من التصعيد؟ وما هي الملفات الغامضة لاتفاق التهدئة؟ وهل انهارت المليشيا الحوثية فعلا أم أنها انحنت فقط أمام العاصفة؟
- مؤشرات ذات دلالات
بإعلانه عن التهدئة مع الحوثيين، أربك دونالد ترامب المراقبين وأثار تساؤلات واسعة حول دلالات هذا التحول المفاجئ في موقف واشنطن من واحدة من أكثر المليشيات الطائفية إثارة للجدل في الشرق الأوسط. كما أن الإعلان عن الاتفاق جاء خارج السياق المعتاد، دون تمهيد سياسي أو دبلوماسي، بل عبر وساطات وتفاهمات سرية، مما فتح المجال لتكهنات بوجود قنوات تواصل خفية كانت تُدار بعيدا عن الأضواء، ودفعت باتجاه تهدئة مباغتة.
وبصرف النظر عن كواليس التوصل إلى التهدئة، فاللافت هو أن أجواء اتفاق وقف إطلاق النار بين واشنطن ومليشيا الحوثيين تشبه أجواء اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله والكيان الإسرائيلي في نوفمبر الماضي، الذي تم بعد تعرض حزب الله لضربات مدمرة من جانب الجيش الإسرائيلي، واغتيال زعيم الحزب حسن نصر الله، وكان ذلك الاتفاق بمنزلة اعتراف من حزب الله بالهزيمة، وشكل منعطفا كبيرا في صراعات الشرق الأوسط ومسار النفوذ الإيراني في المنطقة.
لكن مليشيا الحوثيين تحاول الظهور بمظهر مغاير لحزب الله اللبناني إثر انهياره، فهي لا تعترف بالهزائم والخسائر، حتى وإن صارت أمرا واقعا، واستسلامها أمام أي طرف خارجي لا يعني أنها ستستسلم طواعية للأطراف المناهضة لها في الداخل، أو ستنخرط في عملية سلام وحل سياسي ينهي الحرب، خصوصا إذا كانت هذه الأطراف لا تبدو مستعدة لخوض معركة إنهاء الانقلاب واستعادة الدولة، ويعود ذلك لوجود أطراف إقليمية عدة ترى أن من مصلحتها بقاء مليشيا الحوثيين طرفا فاعلا في اليمن، وتحول دون القضاء التام عليها، من بينها السعودية والإمارات.
لسوء حظ الحوثيين أن اتفاق التهدئة مع واشنطن كان في عهد الرئيس ترامب، المعروف بصراحته وكشفه للمستور وعدم مراعاة الأعراف الدبلوماسية بشأن الاتفاقات التي تتم في الكواليس عبر وسطاء بعيدا عن الأضواء، فهو يحرج حلفاءه وأعداءه على حد سواء. وعندما تحدث عن أن الحوثيين استسلموا وطلبوا من إدارته التوقف عن قصفهم ووعدوا بعدم استهداف السفن الأمريكية في البحر الأحمر، فإن ذلك يعني أن مليشيا الحوثيين هي التي لجأت إلى سلطنة عمان للتوسط وحمل رسالتها إلى إدارة ترامب، ما يعكس تكبدها خسائر كبيرة، وسعيها لتجنب المزيد من الخسائر.
بيد أن إفصاح ترامب عن كواليس الاتفاق صدم مليشيا الحوثيين، التي ذكرت أن اتفاقها مع واشنطن لا يشمل الكيان الإسرائيلي، ثم توالت تصريحات وتعليقات بعض قياداتها على الاتفاق وذهبت بعيدا في الحديث عن كواليسه، مثل الحديث عن هزيمة أمريكا وتراجعها أمام الهجمات الحوثية، ثم الحديث عن أن وقف التصعيد الهدف منه تأمين زيارة ترامب إلى بعض دول المنطقة، وغير ذلك من المزاعم، التي تتسم جميعها بالارتباك والتخبط، وعدم استيعاب ما يحدث.
من الواضح أن مليشيا الحوثيين -التي ترفع خطاب الممانعة والتحدي- لا يمكن أن تستسلم بسهولة، أو تقبل باتفاق كهذا بسهولة، خصوصا أنها دخلت متأخرة إلى حلبة الصراعات الإقليمية والمواجهة مع قوى كبرى. وبما أنها لم تتكبد خسائر فعلية جراء الغارات الإسرائيلية والأمريكية قبل فوز ترامب بولاية رئاسية ثانية، فقد أغرتها تلك المرونة في استمرار الانخراط في التصعيد، وعينها على المكاسب السياسية والإعلامية التي تجنيها مجانا، وانتظار حصاد ذلك لتعزيز وضعها الداخلي.
وبالتالي فإن المليشيا الحوثية لن تبادر إلى مطالبة إدارة ترامب بوقف القصف ضدها عبر طرف ثالث (وسيط) إلا إذا كانت في وضع حرج فعلا، ولم يعد بإمكانها تحمل المزيد من الخسائر، وهي تعلم أن اتفاقا كهذا، الذي يعد كإعلان استسلام، سينسف ما حققته خلال عام ونصف العام من رصيد رمزي في أوساط عدد من الجماهير العربية التي رأت في مليشيا الحوثيين بطلا جديدا يواجه أمريكا وإسرائيل، بخلاف الحكومات العربية التي لم تطلق رصاصة واحدة باتجاه إسرائيل.
وهي جماهير لا تعرف شيئا عن حروب الحوثيين وجرائمهم وانتهاكاتهم لحقوق الإنسان واستهداف المدنيين وحصار بعض المدن في الداخل اليمني، وأنهم يتخذون من القضية الفلسطينية وسيلة لتلميع أنفسهم وغسل جرائمهم بحق الشعب اليمني، وتحقيق مكاسب سياسية في الداخل، فضلا عن كونهم مجرد أداة بيد إيران، التي تتخذ منهم وسيلة ضغط ضد خصومها، ونشر القتل والتخريب في الإقليم.
أما حديث الحوثيين عن أن الاتفاق مع واشنطن استثنى إسرائيل، فالإبقاء على هذه الجزئية كان بهدف حفظ ماء الوجه كونها غير مكلفة، فهجمات الحوثيين على أهداف إسرائيلية مجرد هجمات رمزية لا تحقق أي إنجازات سياسية أو عسكرية. وفي المقابل، فالهجمات الإسرائيلية على الحوثيين محدودة وتأتي كرد فعل لحظي على أي هجوم حوثي يخترق أجواء فلسطين المحتلة، كما أنها تطال أهدافا فارغة أو مدنية أو خدمية، أي أنها لا تطال القدرات العسكرية للحوثيين أو بعض مواقعهم الحساسة، لافتقار الجيش الإسرائيلي لمخابرات في الميدان، بخلاف القوات الأمريكية، التي تستند هجماتها إلى معلومات مخابراتية، واستمرت 50 يوما دون انقطاع، مما أنهك الحوثيين فعليا، ودفعهم إلى المطالبة بالتهدئة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
لكن ستتغير المعادلة في حال استمر التصعيد بين الحوثيين والكيان الإسرائيلي ولم تتوقف حرب الإبادة الإسرائيلية بحق سكان قطاع غزة، إذ قد تزود واشنطن الجيش الإسرائيلي بمعلومات استخباراتية، والدعم اللوجستي، وربما تشارك مع إسرائيل في قصف مواقع الحوثيين والزعم بأن القصف إسرائيلي فقط، لكن هذا السيناريو مستبعد في الوقت الحالي، فالحوثيون سيخففون من هجماتهم على إسرائيل أو جعلها هجمات رمزية لحفظ ماء الوجه ولا يتجاوز تأثيرها الضجيج الإعلامي، وترقب الهدنة المحتملة في قطاع غزة وفق تصريحات دونالد ترامب، حيث سيشكل ذلك مخرجا سهلا للحوثيين، يعفيهم من الاستمرار في التصعيد مع إسرائيل، ويجنبهم أي ضربات انتقامية عنيفة.
- ما دور السعودية؟
بالنظر إلى سياسة السعودية في اليمن منذ وقف المعارك على تخوم العاصمة صنعاء والحدود الشطرية سابقا، عام 2016، ليس مستبعدا أن يكون لها دور في اتفاق التهدئة بين واشنطن والحوثيين، فقد أفادت مصادر إعلامية بأن السعودية ضغطت على دونالد ترامب لوقف الهجمات على الحوثيين قبيل زيارته للمنطقة خلال الأسبوع المقبل، باعتبار أن ذلك سيخلق "موقفا محرجا" لكل من السعودية والولايات المتحدة، كما أن السعودية عارضت منذ البداية الهجمات الأمريكية على مواقع الحوثيين، ثم تصاعد رفضها بشكل كبير مؤخرا بالتزامن مع الإعلان عن جولة ترامب في الخليج، والتي تشمل السعودية والإمارات وقطر.
لكن يبدو أن الدور السعودي لم يكن هو الحاسم في نهاية المطاف، فالسعودية تضغط منذ البدء لوقف الهجمات الأمريكية على الحوثيين، ومن المؤكد أنها بموازاة ذلك كانت تضغط أيضا على الحوثيين لوقف هجماتهم في البحر الأحمر، لكن الحوثيين لم يستجيبوا لتلك الضغوط، فالتصعيد الإقليمي، بالنسبة لهم، فرصة ثمينة لاستعراض العضلات أمام السعودية، وكل صاروخ يطلقونه على هدف أمريكي أو إسرائيلي هو رسالة تحذيرية للسعودية بألا تعاود التدخل عسكريا في اليمن عندما يشعلون حروبا جديدة في الداخل لتوسيع نطاق سيطرتهم.
وإذا افترضنا أن الضغوط السعودية هي التي نجحت في نهاية المطاف في التوصل إلى اتفاق التهدئة بين الحوثيين وواشنطن، تحت مظلة الوساطة العمانية، لما تحدث ترامب بذلك الأسلوب عن الحوثيين قائلا إنهم استسلموا، فالضغوط السعودية قد تكون مهدت الطريق للاتفاق، لكنها لم تكن العامل الحاسم في النهاية، لأن مبادرة الحوثيين إلى مطالبة واشنطن بوقف الهجمات ضدهم وتعهدهم بعدم استهداف السفن الأمريكية في البحر الأحمر، يعني أنهم لجؤوا لهذه الخطوة مجبرين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعد أن تكبدوا خسائر كبيرة، وأن استسلامهم تم بعيدا عن الضغوط السعودية.
- التلميحات لصفقة إقليمية
وفور الإعلان عن التهدئة بين الحوثيين والولايات المتحدة، تحدث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن مفاجآت ستحدث قريبا، من بينها تلميحه لاتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وتقدم ملموس في المفاوضات النووية مع طهران، فضلا عن حديثه عن مفاجأة كبيرة سيكشف عنها خلال زيارته المرتقبة إلى المنطقة.
هذه التطورات المتزامنة أثارت تكهنات حول صفقة إقليمية كبرى يجري التمهيد لها، قد تشمل تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، أو موافقة إيران على تفكيك جزئي أو مرحلي لبرنامجها النووي (كخديعة أو مراوغة وليس تفكيكه فعليا). وإذا صحت هذه الترجيحات، فإن الصفقة المحتملة ستكون متعددة المسارات، تشمل ملفات اليمن، وقطاع غزة، والنووي الإيراني.
وعلى الرغم من أن اتفاق التهدئة بين واشنطن والحوثيين قد يبدو ظاهريا جزءا من الصفقة الإقليمية المشار إليها، لكن ذلك الاتفاق يحمل سمات استقلالية تجعله يبدو منفصلا عن المسارات الأخرى، ذلك أن سلوك الحوثيين، المعروف بالتكتم والمناورة، يشير إلى أنهم كانوا سيواصلون التصعيد أو حتى يوقفونه بشكل غير معلن، إن كان الأمر جزءا من تفاهم أوسع، لكن اتفاق التهدئة يحمل مؤشرات على تحولات داخلية في حسابات المليشيا الحوثية، تدفع للاعتقاد بأن هناك تطورات أخرى أكثر إلحاحا تقف وراء طلب الحوثيين من واشنطن وقف الهجمات ضدهم.
وتشير المعطيات إلى أن مليشيا الحوثيين تعرضت مؤخرا لضربات نوعية ومكثفة من جانب الولايات المتحدة، معتمدة على تقنيات استخباراتية متقدمة وصور أقمار صناعية، مما سبب خسائر لم يسبق أن تكبدتها المليشيا حتى في ذروة الحروب السابقة، وهو ما يفرض على المليشيا المبادرة إلى طلب التهدئة وتقليص المواجهات، للحفاظ على ما بقي من قوتها العسكرية، تحسبا لانفجار داخلي أو انتفاضة من داخل الحاضنة الاجتماعية.
وسواء كان اتفاق التهدئة جزءا من صفقة كبرى أو نتيجة حسابات داخلية، فهو يعكس لحظة حرجة بالنسبة لمليشيا الحوثيين، التي تبدو الآن بين نارين: الحفاظ على التماسك الداخلي في ظل ضغط عسكري واستخباراتي متصاعد، وبين الانخراط في تفاهمات تدرأ عنها الانهيار الشامل، حتى وإن قلصت من صورتها الرمزية لدى أتباعها وحلفائها المحليين والإقليميين وأضعفت خطابها التعبوي.
وفي كلتا الحالتين، لا يمكن الجزم بأن المليشيا الحوثية وصلت إلى مرحلة الانهيار الشامل، ولكن إلى مرحلة ضعف أو انهيار جزئي، لتدخل على إثرها مرحلة جديدة من الصراع، تتطلب مراجعة شاملة لأدواتها وخطابها وتكتيكاتها، ولعلها تنتظر التهدئة في قطاع غزة بفارغ الصبر، لتعفي نفسها من مواجهات غير مجدية أو تعود بالوبال عليها، لتتفرغ لتعويض خسائرها في الأسلحة والمقاتلين، والاستعداد لإشعال جولات جديدة من الحرب الأهلية.