مقالات
فلسفة تثير الغثيان 3
كنت في كل اجتماع حزبي أشعر أن الحزبية لا تليق بي ولا تصلح لي، ذلك لأن مزاجي وطبيعتي يتعارضان مع الانضباط الحزبي ومع الحياة الحزبية.
فقد كنت شخصًا قلقًا، ولديّ ذلك القلق الوجودي من قبل اتصالي بالوجودية، ومن قبل أن أقرأ للكُتاب والفلاسفة الوجوديين.
أما بعد أن قال لنا مسؤولنا الحزبي إن الوجودية فلسفة عبثية وعدمية، فقد رحت أبحث عن كتب الوجوديين وأقتنيها، وكانت مكتبة الثقافة في "باب مُشرف" تحتوي على الكثير منها، وكنت -وأنا أقرأها- أجد نفسي فيها، وأجدني أكثر شغفًا بهذه الكتب التي تزيدني قلقًا، وتفاقم من شعوري بالوحدة والعُزلة والاغتراب.
وأما الكُتب التي يقررها الحزب علينا، ويلزمنا بقراءتها، فكنت أضيق بها، باستثناء الروايات.
وكانت رواية "الأم" للأديب الروسي مكسيم غوركي، و"كيف سقينا الفولاذ" للكاتب الأوكراني نيكولاي أوستروفسكي، و"بطل من هذا الزمان" للكاتب ميخائيل ليرمنتوف، وغيرها من الروايات، قد فتحت لي نافذة أطللت من خلالها على الأدب الروسي العظيم، وعلى الكُتّاب والأدباء الروس العظام.
وفي ذات يوم، التقيت في شارع صنعاء بواحد من رفاقي في الخلية الحزبية. كان طالبًا في الثانوية، وأكبر منا جميعًا، وأسبقنا في الانضمام إلى الحزب، وأكثرنا وعيًا وحماسًا وانضباطًا. وقد فرحت به لحظة صادفته، ولأنه طالب وأنا عسكري وعندي راتب عزمته على عشاء في "مطعم الفيلق". وبعد العشاء مشى معي إلى "شارع المِطراق" ليتعرّف على سكني.
وذات مساء، وقد مرّ عليّ ليبلغني بموعد اجتماعنا الحزبي، وجدني مستلقيًا على سريري والكُتب من حولي. وحين دعوته إلى الجلوس، جلس على حافة السرير، وراح يقلّب الكتب، ويتأملها، ويقرأ عناوينها وأسماء مؤلفيها. ثم، وقد تفاجأ بأن الكتب الموجودة لكُتّاب وفلاسفة وجوديين، قال لي وهو يمسك رواية "الغثيان" للفيلسوف جان بول سارتر:
"أيش هذا يا عبد الكريم؟ تقرأ كتب وجودية؟".
وراح يسألني عمّا يدفعني إلى قراءة هذه الكتب التي نبَّهنا المسؤول الحزبي إلى خطورتها، وحذّرنا من قراءتها!!
قلت له: "تعجبنا".
وعندما قلت له إنها تعجبني، سكت ولم يتكلم.
وفي الاجتماع الحزبي، وقد حان وقت النقد والنقد الذاتي، قال وهو يلتفت نحو المسؤول الحزبي:
"أنا أنتقد الرفيق كريم - وكان هذا اسمي الحزبي - لأنه يقرأ كتبًا وجودية مخالفًا بذلك تعاليم حزبنا".
وبعد أن تفاجأت بانتقاده لي أمام المسؤول الحزبي، الذي سبق أن حذّرنا من قراءة كتب الوجوديين، زعلت وتألمت منه، وقلت بيني وبين نفسي:
"يا له من حقير!! يحرّش بي عند المسؤول الحزبي، وأنا عزمته على عشاء!!".
وبعد أن انتهى من نقده لي، راح المسؤول الحزبي ينتقدني هو الآخر، ولكن بنبرة حادة، ويعيد عليّ الكلام نفسه الذي قاله عن الوجودية في اجتماع سابق. لكنه هذه المرة أضاف قائلاً إنها "فلسفة تثير الغثيان". وكنت أنا مستغربًا من قوله هذا، ورحت بيني وبين نفسي أتساءل عن السبب الذي جعله يقول عن الوجودية إنها "فلسفة تثير الغثيان".
ثم تبين لي أن الرفيق الذي انتقدني كان قد التقاه قبل موعد الاجتماع، وكلمه عن رواية "الغثيان" لجان بول سارتر، وكان قد حفظ اسمها من بين كل أسماء الكُتب التي أبصرها فوق سريري.
وبعد انتهاء الاجتماع، طلب مني المسؤول الحزبي أن أنتظره لنخرج معًا.
وبعد خروجنا، قال لي إن النقد والنقد الذاتي هو الأداة التي من خلالها نصحح أخطاءنا، ونقيّم سلوكنا، ونعيد بناء أنفسنا كأعضاء في حزب ثوري.
وقال إنه لاحظ عندما انتقدني رفيقي أنني زعلت، والمفروض ما أزعل.
وكنت أريد أن أقول له إن ما قاله الرفيق الذي انتقدني ليس نقدًا، وإنما هو وِشاية، لكنني لم أعرف حينها كيف أعبّر عن فكرتي هذه، فكان أن لُذت بالصمت.
وراح هو يواصل نقده للفلسفة الوجودية، ويصف لي عيوبها ومخاطرها، وأنها فلسفة بورجوازية تثير اليأس من الحياة ومن النضال ضد الاستغلال، وتبشّر بالموت والعدم والانتحار.
ولأكثر من ساعة وهو يكلّمني عنها ويحذرني منها، لكأنّه أب يحذر ابنه من تعاطي المخدرات بعد أن سمع عن تعاطيه لها.
ومن يومها قررت البحث عن مكان آمن أسكن فيه، ذلك لأني، وأنا أقيم في شارع "المطراق"، كنت مكشوفًا ومتاحًا للجميع، وكان كل من يمرّ بي، سواء كان يعرفني أو لا يعرفني، يتوقف بدافع الفضول ليرى ماذا أفعل وماذا أقرأ.
وفي عصر اليوم التالي، ذهبت إلى أطراف المدينة أبحث عن "عُشّة" للإيجار. وكنت عند مروري بأهل تهامة البسطاء الساكنين في العشش تتملكني رغبة في أن أعيش الحياة على طريقتهم، لكني عندما كنت أسألهم عمّا إذا كان هناك عشّة للإيجار، كانوا يجيبون بالنفي. وكنت أعود مرهقًا من رحلة البحث عن سكن.
وذات يوم، وقد عدت من رحلتي، نصبت سريري لصق عمود الكهرباء، وحاولت أن أقرأ شيئًا، لكني، لشدة ما كنت متعبًا، استغرقت في النوم.
وفي الصباح الباكر، حين استيقظت ووجدتني نائمًا في الأرض وفوق تراب الرصيف، استغربت وارتعبت، ورحت أتساءل بيني وبين نفسي:
"من أنزلني من فوق السرير إلى الأرض؟!".
وعندما نهضت لأرى، أبصرت المجنون الشهير "علي الزيلعي" نائمًا فوق سريري، وصوت شخيره يملأ الشارع.