مقالات

عن الوجه الآخر لشارع المطاعم

29/12/2023, 09:44:51

كان هذا الشارع فتنة عُشَّاق الشاي والمثاقفة، ولقاء الأصحاب، وفتنة الطعام والشراب والسكن الفندقي. كان يحيط به عدد كبير من الفنادق النظيفة، وذات الأسعار المعقولة للجميع، سواء القادمين من المحافظات، وخاصة سُكان عدن أو غيرها. وحوله عدد كبير من البوفيهات التي تُقدم عصائر مميّزة. وهو بالقرب من وزارة الثقافة، والمتحف الحربي، والمتحف الوطني، وبيت الثقافة، والهيئة العامة للكتاب، وهيئة الآثار. وهناك في الجوار شارع القصر، الذي يتفنن في عرض أحدث الملابس الرجالية، وأغلاها ثمناً، وأكثرها أناقة، وكانت هناك مارد الثورة، التي تصور بجوارها أجيال من اليمنيين، ثم اختفت فجأة بعد 21 سبتمبر.

ما أصبح عليه التحرير، وشارع المطاعم اليوم، هو أكبر ملجأ للموظفين بدون راتب بكل مستوياتهم العلمية، وأعمارهم ومشاربهم الثقافية وانتماءاتهم الحزبية والسياسية، في شارع المطاعم تجد المدراء، الذين لم تكن لتحلم بالوصول إليهم، والحصول على توقيعاتهم، يشربون الشاي، ويتذكرون أياماً مرَّت كالحلم، واختفت إلى الأبد.

في الصباح الباكر جداً، وبالتحديد بعد صلاة الفجر مباشرة، تبدأ حركة الناس، والحياة تدبُّ بأقوى قوتها في شارع المطاعم، والفول والفاصوليا  والكبدة والدقة ترسل روائحها لتملأ أنوف كل من في المكان، ويقدر على تناولها، وخاصة من الزوّار الجدد.

وعلى مقربة شديدة، روائح الخُبز والزلابيا  المقلية بالزيوت تبعث الدف في المكان، والناس يرتدون ثياباً للبرد القارس، الذي  يهجم مباغتة في كثر من الأحيان، وتأتي فئة معينة من المثقفين الميسورين باكراً لتناول كوب شاي، أو قهوة مع الحليب، والتقاط بعض الصور مع أصدقاء قدامى تصادف وجودهم في مثل هذا الوقت، لكن في الحقيقة الجميع يشربون الشاي بالحليب بدرجاته المختلفة.

ومن بعد الثامنة، يملأ المكان مجموعة كبيرة من المهمّشين والمهمّشات لطلب الشاي والخُبز وغيره والمغادرة، ثم يأتي دور المتقاعدين ومختلف الأعمار، الذين يتناولون إفطاراً خفيفاً أو كوب شاي، والمغادرة إلى جوار المتحف الحربي أو الرصيف، الذي يمتد على الشارع المحاذي لبيت الثقافة، ومجموعات أخرى يجلسون جوار موقف السيارات، وتحت الأشجار، أو تحت الشمس؛ ليشعروا قليلاً بالدفء الجسدي، لكن الكثيرين جداً يبحثون عن دفء الجيب، الذي يعيش برداً قارساً، منذ سنوات طويلة.

كل هؤلاء لم يعودوا يتحدثون بالسياسة، لقد ملّوا وغرقوا في الملل، ولم يعد حديث الجميع إلاَّ المرتبات، وهل هناك أمل بالسلام،  وعودة المرتبات، ودوران عجلة الحياة، وبصيص أمل بحياة كريمة قبل الموت والرحيل، الذي باغت الكثيرين وهم ينتظرون عودة الحياة؛ لأن هذه البطالة هي الموت بذاته.

كافة شرائح المجتمع اليمني تتواجد في هذا المكان المحدود، وهي تتطلّع، وتأمل بعودة إيقاع الحياة والوظيفة والدوام، والمؤسسات بكل مسمياتها، باعتبارها كوادر مؤهلة وحقيقية، حتى المتقاعدون -خلال سنوات الحرب- الذين لم يتم تسوية أوضاعهم، يأملون بالعودة المأمولة.

هناك كثيرون ممن يأتون كل صباح إلى شارع المطاعم من طبع الوفاء بهم، ولقاء أصحابهم وزملائهم، وأكثرهم يأتون من مسافات بعيدة سيراً على الأقدام، لكن الحقيقة أنهم يأتون مشياً؛ لأنهم لم يجدوا مئة ريال مشططة أُجرة التنقّل، أو العودة إلى منازلهم ظهراً، وكلهم يجرون أذيال الخيبة..

شارع المطاعم -خلال سنوات الحرب- أبكى أناساً كثيرين، وأفرح القليلين، أبكى الكثيرين ممن لا يجدون قيمة كوب من الشاي، وأفرح الكثيرين ممن يستطيعون مواساة زملائهم القدامى ومعارفهم.

وأكثر من يأتون صباحاً بوجوه باسمة، ويعودون بوجوه شاحبة، هم الكُتَّاب، وحملة الأقلام الشريفة، وروّاد وزارة الثقافة، التي تصفر فيها الرياح، منذ سنوات طويلة.

مقالات

تصفية الشيخ حنتوس.. الكرامة كتهديد للسلالة

تصفية الشيخ صالح حنتوس لم تكن نتيجة مواجهة مسلّحة نظامية، ولا حصيلة خصومة جنائية، بل تعبير عن إرادة حوثية مطلقة ترى في في كرامة رجل مسن رفض الانكسار، تهديدًا وجوديًا لمشروعها القائم على الإذعان التام والهيمنة المطلقة على حياة الناس وواقعهم.

مقالات

تقديم كتاب "دليلُ السُّراة "

لن نحدّق في الهاوية التي علقنا على أطرافها. لن ندع الجحيم الذي مررنا به ينبت في دواخلنا. في أشد اللحظات قتامةً ويأساً، نعود إلى أجمل ما فينا، نلوذ بروح اليمن العصية على الانكسار.

مقالات

مشروع إسقاط الدولة اليمنية: من التوريث إلى تسليم صنعاء

من ينظر إلى المشهد اليمني اليوم قد يظن أن الحوثيين حققوا نصرًا مرحليًا على خصومهم. لكن الحقيقة أن ما يبدو "نصرًا" ليس إلا حلقة أخيرة في مسلسل طويل من الانهيار الممنهج، تقاطعت فيه الأدوار الداخلية والخارجية، وسارت فيه اليمن من دولة ذات مشروع إلى ساحة مفتوحة للمليشيات والمصالح.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.