مقالات
شهادات مجروحة في الإبداع
لطالما قرأنا شهادات وتزكيات الأدباء لبعضهم البعض، سواء كانوا كتّابًا أو شعراء، والحقيقة التي يجب النظر من خلالها أن الشللية ليست على مجال معين أو ميدان واحد، بل تمتد إلى كل ما يخطر على البال وما لا يخطر على البال.
ولا نستطيع الجزم إذا كانت الشللية في الأدب قد أضافت إلى المشهد أو أخذت منه، ولذلك يمكننا العودة إلى الوراء، وخاصة من مطلع القرن العشرين إلى منتصفه، لنرى غبار المعارك الأدبية، على سبيل المثال، بين أنصار القديم وأنصار الجديد، أو بين المؤيدين للشعر العمودي وأنصار الشعر الحر، أو ما بين أنصار قصيدة النثر والمعارضين لها، مع أن الشعر والنثر هما أهم الفنون منذ عصر ما قبل الإسلام، ومع اعتقاد الكثيرين بأن الشعر سبق النثر أو تفوّق عليه، إلا أن هذا الرأي تم دحضه بعد زمن طويل، وخاصة في منتصف القرن العشرين، حيث أثبت الدكتور زكي مبارك في كتابه «النثر في القرن الرابع الهجري» أن النثر قبل الشعر، وأورد أدلة من القرآن الكريم يصف فيها الله سبحانه وتعالى العرب قبل الإسلام وأيام الدعوة الإسلامية بأنهم قوم لدّ وأهل جدل. ومعنى هذا أيضًا أن النثر سبق الشعر.
وقد تبدو تسمية زكي مبارك «الدكاترة» غريبة بعض الشيء لمن لا يعرف سبب تسميته بذلك، وذلك لأنه حصل على ثلاث درجات دكتوراه في موضوعات مختلفة.
وإذا تركنا كل ذلك واتجهنا لرؤية الدراسات التي تمت كتابتها وهي تتناول أدب الدكتور طه حسين الذي كان عميد كلية الآداب في جامعة القاهرة، سنلاحظ كثرتها المفرطة ومبالغتها في تقديس كل ما كتبه طه حسين، لماذا؟ لأنه يحتل منصبًا أكاديميًا مهمًا والجميع يحلم برضاه عنهم، وبيده سلطة قرارات الفصل والتعيين.
عندما اكتشف المحقق محمود محمد شاكر صاحب كتاب «مع المتنبي»، وكان حينها طالبًا عند طه حسين، اكتشف سرقة طه حسين لبحث المستشرق الألماني مرجليوث عن الانتحال في اللغة، رغم أن طه حسين أضاف للبحث وزاد عليه وقرره على تلامذته باعتباره كتابه ومن بنات أفكاره دون الإشارة إلى مصدره، فما كان من شاكر إلا أن صارح أستاذه بالحقيقة، وكانت النتيجة طرده من كلية الآداب إلى غير رجعة.
في اليمن، ومنذ مطلع الثمانينيات وكل التسعينيات، امتلأت الصحف والمجلات والدوريات بالكتابات التي تمجد أدب الدكتور المقالح وشعره ونثره، سواء من كوادر جامعة صنعاء أو مركز الدراسات والبحوث أو تلامذة المقالح في الجامعة أو غيرهم.
ولقد كان للدكتور المقالح الفضل في الإتيان بكوادر مؤهلة وأسماء لها وزنها العلمي والمعرفي والأكاديمي، وانتدابهم إلى جامعة صنعاء، فشكّلوا علامة فارقة للجامعة بكل فروعها.
ولا شك أن الجميع كانوا يحسون أنهم مدينون للدكتور المقالح، فأثروا أدبه وشعره بالدراسات والنقد والإشادة والتنويه، وهو ما لم يحدث مع شعر البردوني وأدبه أو غيره، على سبيل المثال لا الحصر.
ما نود الخلوص إليه في هذا المقال أن التعصب الأعمى لشخص وما يكتبه يجب أن يكون بعيدًا عن الأهواء الشخصية والمجاملات وتمتين العلاقات الخاصة لمصالح خاصة.
خلال سنوات الحرب في اليمن، سقطت الكثير من القيم الأخلاقية على أرصفة المدن ومراكز الإبداع، وظهر مبدعون كان يُضرب بهم المثل في نزاهة الطرح وإصدار الأحكام، وتحولت كتاباتهم إلى شهادات مجروحة مسبوقة بأسماء وأفعال التفضيل الممقوتة والمنبوذة من كل المناهج العلمية والأدبية.
سقطت المثل الأكاديمية على أبواب المطاعم أو أسواق القات وعلى أرصفة محلات الصرافة وغيرها.
هناك خلل كبير قلب الحقائق رأسًا على عقب، وحوّل القيم الكبرى التي لطالما آمن بها وقدسها الجميع إلى سلع رخيصة يمكن لأي كان أن يتاجر بها مقابل قوت وقات يومه.
لقد تلوثت الحياة، ولم يعد هناك ما يمكن اعتباره جميلًا أبدًا، ولكي تكون الأمور واضحة جدًّا…
لم يعد المعلم - أو المعلمة - يستطيع حتى أن يشرح الدرس لتلاميذه، لأن هناك بين تلاميذه من هو عدو متربص بفهم أو بغير فهم، ولم يعد هناك مجال لزلات اللسان أو خيانة التعبير أو الثبات على المبدأ.